يبدأ ويتني س. بودمان في كتابه «شعرية إبليس – اللاهوت السردي في القرآن»* من نقطتين منهجيتين. الأولى العلاقة بين السرد والعدالة الإلهية. الثانية العلاقة بين النص الثابت وقارئه. ويرى أن «الذخيرة المعرفية للكتابة تشكل جانبا من الذخيرة المعرفية للقراءة». وإذا تتبعنا مصادر شخصية إبليس – حسب الخيال الإسلامي – لن نصل لشيء يذكر. فالقرآن بنى منطقه على الإعجاز وحسن التدبير وليس على الدهاء والمكر، وهما من طبيعة إبليس. وقد تطور الفكر الشرعي الإسلامي وخياله التربوي على هذا الأساس. وربما كانت الأطروحة الإسلامية تعمل على أساس التبشير بالخير، وليس التخويف من عاقبة الشر ورموزه. والمثال على ذلك وفرة أشجار الفاكهة في الجنة واقتصار الجحيم على شجرة واحدة هي الزقوم. وكل الإضافات التي لاحظ بودمان وجودها لا تدين للذاكرة الإسلامية ولو بالنزر اليسير. وتبني نفسها على الخيال الغربي. فقد أعاد مشروع النهضة وما تلاه من تنوير وانفتاح ترتيب العلاقة بين الدين والعقل. وتحول المتن الإسلامي إلى هامش يخيم عليه ظل ثقيل لفكرة صراع الحضارات، أو صدام الشرق والغرب.
وينسحب هذا الكلام على التصوف وإضافاته، فهو نتيجة عودة ثقافات الميتروبول للحياة والازدهار، لكن بأقنعة وأزياء إسلامية.
وإذا عالج القرآن واقع الروح العربية بلسانها، فإن تفسير القرآن هو نتاج آلية تفكير إسلامي فوق عربي أو عابر للجنسيات والقوميات (لو استعملنا المصطلحات المعاصرة). ويمكن القول إن حركة إحياء الفلسفات الظلامية هي المسؤولة عن تطوير صور إبليس. بتعبير آخر لقد دخل إبليس مع اللاهوت الإسلامي، وليس مع انتشار الدعوة. ونحن ليس بمقدورنا التعامل مع صورة واحدة متفق عليها لإبليس، لكن مع عدة نسخ وتراكيب، أقلها إسلامي وأكثرها فلاش باك وحفريات معرفية في ثقافات شعوب المنطقة. وإذا كان «صحيح مسلم» هو المصدر الأساسي لمداخلات النبي عن إبليس، يكفي أن نعلم أن مسلم مولود في نيسابور وبعد 200 عام من الدعوة تقريبا، باختصار لم يكن القرآن مولعا بصور إبليس، لكن بموضعه في الدورة الطبيعية للغواية والشر. بعكس الفكر الساساني الذي يحتفظ عنه بتفاصيل لا شك أنها ساعدت في تجسيده حتى تحول لشخصية روائية (فقد كان هو من شجع الضحاك في الشاهنامة على الطغيان، وتوجد روايات تشير إلى أن الضحاك صورة لروح إبليس الشريرة، وهما شيء واحد). وكما تذكر ريبكا دينوفا، حمل اليهود (في طريق عودتهم من السبي البابلي بعد سقوط المملكة البابلية بيد الفرس في 539 ق.م) معتقدات الفرس القديمة، وأوكلوا مثلهم لإبليس الشر بدلا من الرب. وتطورت هذه الفكرة عند الأسينيين (كما تذكر مخطوطات البحر الميت) ليكون مندوب إبليس جزءا من كل نفس حية. وعلى الأرجح أن حبكة إبليس الإسلامية، هي أبسط من الصور المعقدة المعروفة حاليا. وهناك أكثر من صلة قربى بين الملاحم الدامية والتراث غير المكتوب للخيال بعد – العربي، لكن الناطق باللغة العربية (تحديدا ألف ليلة وبقية سير الأبطال والمشاهير).
إن كل ما فعله بودمان لا يدخل في مجال تفسير وشرح العبارات الموجزة التي وردت عن إبليس، لكنه يجمل تصورات الشعوب عن كائنات تختبئ وراء حجاب الواقع المادي.
ولا يوجد في الإسلام ما يزيد على نمطين، الأول الصور المكية وتغلب عليها مشكلة المعرفة. وهي غامضة وتدخل في آلية التعبير بالرموز، أقدم أساليب التواصل قبل اكتشاف الفن التعبيري، ثم الصور المدينية وهي ناجمة عن الاحتكاك الشعبي بالأقليات (غيتو اليهود). وينتبه بودمان لعدة افتراضات حول هوية إبليس.. أهمها أنه لم ينفرد بسورة كاملة مثل غيره من الشخصيات والحوادث.. وأنه جاء بسياق مساحة ضيقة، لكنه يستند للتاريخ والأدب الإسلامي (وليس اللاهوت) ليستنتج حقائق غير مبرمة عن عالم الكائنات غير المنظورة، أو الكائنات الليلية، وهنا يخرج لأول مرة عن الموضوع، ويدخل في عالم تكهنات وتصورات جيل من أجيال حضارة الشرق الأوسط (وهو العصر الوسيط بالتحديد) ويقدم إعادة بناء خيالية لعالم الموتى.
وقد ابتعد بودمان عن المنطق القرآني بمجموعة من النقاط، فقد اتكأ على روايات غير دينية يلعب فيها المجاز، ولم يضع حدا فاصلا بين مختلف المصادر. مثلا لم يعزل حدود الفكر الإسلامي (الذي يحتكره الله لنفسه) عن دائرة التفكير المسيحي (الذي يمكن أن تتعايش فيه مخلوقات الأرض مع مخلوقات السماء، من خلال مبدأ التجسيد وحلول روح الأب في جسد الابن). كما أنه طور فكرة عن الحياة بعد الموت، حينما تنفصل الروح عن الجسد ويتوزع المخلوق – أو يتجزأ لمكوناته. وهذا يرشح فكرة بودمان لتكون تصويرا للحياة المرجأة أو لميكانيكية انتقال الإنسان، من تجليات مرحلة لتجليات مرحلة غيرها.
إن كل ما فعله بودمان لا يدخل في مجال تفسير وشرح العبارات الموجزة التي وردت عن إبليس، لكنه يجمل تصورات الشعوب عن كائنات تختبئ وراء حجاب الواقع المادي. وبالنتيجة تفرد إبليس (حسب رأيه) بهوية لا ينازعه عليها أحد. فهو يمثل دور المعارضة. كما أنه وجه كيده لصنفين من أصناف المخلوقات الأرضية، البشر ويمثلون الوجود الفيزيقي المادي، والإنسان ويمثل الوجود الاجتماعي، ناهيك من التردد وعدم اتخاذ موقف واضح، حتى أنه طرأ اختلاف على آيات إبليس، فهو في كل السور يجادل ربه ليعفيه من السجود لآدم، باستثناء سورة (ص) وفيها قرر الامتناع. ولم يكن لديه استعداد للتفاهم لا بالحوار ولا باستعمال القوة، ولم يحاول أن يفتح باب النقاش مع الله حتى يلين، كما فعل الرسول بموضوع الصلوات، ويفضي ذلك بنا لقراءة مواقف وشخصية إبليس في الفكر المعاصر من خلال نماذج أدبية حديثة. ويأخذ إبليس فيها منعطفا غريبا وعجيبا. فهو بنظر اليمين واليسار نقطة مضيئة رغم الخطيئة الأصلية التي ارتكبها، وكان موقفه يتسم بالبسالة والجرأة (بلغة بودمان). لكن لا أستطيع أن أؤيد هذه الفكرة، ولعدة أسباب.
أولا لا يمكن استعمال المعايير نفسها، إذا كنا نقرأ شخصية إبليس في حقول متعاكسة، مثل شعر محمد إقبال (الذي يلتزم بخط وإطار القرآن) وشعر أمل دنقل المعارض والثوري.
ثانيا.. لا يجوز النظر لشخصيات نجيب محفوظ بالعين نفسها التي نتابع بها شخصيات نوال السعداوي، حتى أنه لا يمكننا وضع كل أعمال نجيب محفوظ في كفة واحدة. وروايته المعنية «أولاد حارتنا» بالذات لها وضع خاص، فهي ليست اجتماعية كثلاثيته، ولا أسطورية كالبواكير، بل تدخل وبشكل مباشر في الصراع على السلطة والشك بحقيقة دوافع ثورة الضباط الأحرار، وقد استعمل فيها الرموز تهربا من الرقابة السياسية، وليس بسبب الخوف من ضوابط وشروط الوعي الديني.
ثالثا.. لم يتحرر إبليس في الشرق من النظرة الدونية لمخلوقات العالم الموازي، وهو لا يعدو أن يكون مثالا للشر مهما تعددت أسبابه. فهو الإمبريالية التي تستعمل القوة لقهر إرادة الشعوب (عند يوسف إدريس). وهو النظام الأبوي والمخابراتي (الأب والزوج الظالم) في كتابات نوال السعداوي، لكنه الجمود العقائدي الذي يسخر الروح لخدمة أديان أرضية (كما هو الحال في رواية «عزازيل» ليوسف زيدان، أحدث نسخة من صور إبليس المعاصر).
منشورات دار الجمل في بيروت وبغداد. 2017. بترجمة لرفعت السيد علي
كاتب سوري