عندما يواجه العالم كله، على تنوع واختلاف شعوبه ومجتمعاته، وباء كورونا بالقدر نفسه من التحدي والمجابهة، وفي لحظة واحدة. معنى ذلك أننا وصلنا إلى لحظة زمنية مفارقة، تحثنا على ضرورة تخطي العادي والوضعي والمادي، إلى ما هو أرحب وأعلى وأسمى، ليس في معاني الكلمات فحسب، بل في آيات الكون حَرَكته وسْكونه. فالعالم كله اليوم، يتطلع إلى لغة السماء، كمسلك إلى مجال يسع الجميع، ويصنعه الجميع بما أوتي من القدرة على فهم الخطاب الإلهي، في آخر مراجعه، القرآن الكريم، لأن الناس جميعا وقفوا حيال أهم لحظة في تاريخهم الإنساني، متضرعين إلى السماء لالتقاط أهم المعاني، التي يمكن فهمها في لحظة الشعور العالمي بالخطر المحدق بالبشرية جمعاء.
فاللحظة التي ألمَّت بالجميع، هي لحظة معايشة تفادي وباء جائحة كوفيد 19، وهي حالة من الشعور الواحد حيال فيروس متناهي الصغر، لم تفلح أمامه قوى دولية عظمى غير متناهية في الكبر. فلحظة المواجهة الكبرى تُلِح على العبادة، والتماس الغفران والتسامح مع الغير، لأن السياق مساوق تماما لعصر الفتوحات الإلهية والنفحات الربانية، فالناس جميعا مدعوون إلى تلبية نداء الإنسان الأخير في عصر العولمة الفائق.
إن لحظة التطلع إلى لغة السماء في لحظة كونية فورية، هي أيضا دعوة للعودة إلى الذَّات والاستئناس بمَكَامِنها وعَوَالِمها، والنظر إلى النفس وذخائرها والقلب ولطائفه، فالعبادة مع النفس، توحي أكثر بمعاني القرآن الكريم عند تلاوته بصوت يريد أن يجاري صوت جبريل لحظة الوحي به، السماع في هذه اللحظة من العبادة تُشَرَّع معاني القرآن على كل الدنيا والآخرة، تلتقط كلماته وجمله من مصدر خارج الزمان والمكان، صاحب النص لا يحدّه حدّ، ولا يعرف إلا أنه يرسل حديثه إلى الناس كافة، يخبرهم عن مفردات الدنيا وحقائق الآخرة، يفتح لهم كتابه أو كلامه المنَجّم والمتناثر في شَذَرات نزلت على رسولنا الكريم لأكثر من عقدين من دعوته إلى الإسلام، وعلى آياته الكبرى كما أبدعها في صنيع خلقه في السماوات والأرض. فقد صار لإنسان هذا الزمن دراية بالسماء، التي أضحت مجالا يمكن التحليق فيه، كما أن الأرض صارت تسع الناس كافة، والشعور بالانتماء إليها والعيش في أكثر من مكان ومجال. لحظة وقوف الناس كافة في لحظة واحدة وبشعور واحد، أمام خطر انتشار آثار فيروس كورونا، وفّر إمكانية الإصغاء إلى الرسالة الإلهية بالمعنى الذي يشير إلى تدبر معاني القرآن الكريم، في أفق وحدة الخليقة ووحدة المصير. فالإنسان اليوم يدرك تماما أن العالم الذي يحياه في كل مظاهره وتجلياته ولحظاته، هو الأرض التي وردت في خطاب الله إلى الناس جميعا عبر كل الرسل والأنبياء الذين أرسلهم إلى بني البشر.
إن امتثال الكل، وفي لحظة واحدة يعطي دراية قوية لمغزى الخطاب الإلهي في آخر نسخه، القرآن الكريم، الذي جاء بلغة عربية فصيحة، فلغة القرآن بيِّنة واضحة، تشير إلى توفر نصيب البشرية كلها في ما سبق وما لحق الإسلام. ولعلّ أهم لحظة لالتقاط معان جديد لرسالة الإسلام هي لحظة العولمة، أو العصر الراهن، الذي يكشف عن راهنية اللحظة وقوتها الفائقة في إدامة الأبدية، ومن ثم توفير لحظة القراءة المتأنية للنصوص المقدسة. فقد كان الفيلسوف الألماني نيتشه يشرح ويُعَرّف علم اللغة وفِقْهِها بأنه فن القراءة المتأنية، فقد تبين من خلال الدراسات العلمية لمخابر ومراكز أبحاث، ترصد اللغات التي ترجم إليها القرآن الكريم، أنها فاقت ثلاثة آلاف بين لغة ولهجة. فضلا عن الآلاف من الدراسات الجادة في كافة لغات العالم، لمّا تصل بعد إلى التداول العام، عسَاها تغير من عادات ذهنية وعقائد متحجرة وطرق فهم ونظر متعثرة وغير معقولة.
الهم الأكبر لكتاب «قرآن المؤرخين» هو النفاذ إلى تكوين ظاهرة الإسلام ومجموعاته الأولى في صلته بالديانات السابقة عليه
وفي هذا الصدد، نحيل إلى أهم إنجاز علمي، لأننا في عصر العلم والفهم المعقول للدين، حول قراءة ودراسة القرآن الكريم، صدر منذ أشهر في فرنسا، تحت عنوان « قرآن المؤرخين» في ثلاثة مجلدات ضخمة، تضمنت ما يفوق 3 آلاف صفحة، تضافرت على إنجازه جهود ثلاثين باحثا من مختلف الدول، أضفى على العمل بعده العالمي والدولي والمؤسساتي، على خلاف الدراسات التي كانت تتم في الحيز العربي، لا تعدو كونها تفاسير لتراكم المعاني القديمة، لا تستفيد من العصر الحديث إلا في ما ندر. وجاء «قرآن المؤرخين» ليضيف طرفا آخر في العملية العلمية، ويرَكِّب على أساسها بنية ذهنية جديدة تتجاوب أكثر مع دنيانا الجديدة، والأكثر إلحاحا على التقاط معاني العصر الجديد في القرآن الكريم. فالنظر في الكتاب/ الكون، يوحي ويفسر ويشرح العديد من الآيات القرآنية التي بقيت رموزا وألغازا ومتشابهة، فضلا على ما كان يعرف لدى الشَّراح والمفسرين بحمّالة أوجه. من المحتمل أن يدشّن هذا الإنجاز العظيم مدخلا جديدا في الدراسات والبحوث الإسلامية، ويعيدها إلى التداول الأكاديمي المؤسساتي الذي يعالج موضوع القرآن الكريم، من خلال إشكالياته المعاصرة، كما يرسم آفاقا حديثة تتجاوز ليس الدراسات الشرقية فحسب، بل أيضا الدراسات الاستشراقية التي سادت طوال قرنين من الزمن تقريبا. فقد استقطب هذا الإنجاز خبرة ودراية، وعلما ومناهج ومقاربات وفرضيات وجوانب تاريخية، وقفت على الأجزاء ومقاطعها، التي لم تنلها الدراسات والبحوث السابقة، خاصة ما قبل الإسلام ولحظته، في كل تفاصيلها من لهجات وعشائر وقبائل وحواضر، وصلتها بالأمم الكبرى، وعلى محاولة استعادة السياق الثقافي والبنية الاجتماعية والأنثروبولوجية التي كانت عليها المجتمعات العربية ما قبل الإسلام، وما بعده. فالهم الأكبر لكتاب «قرآن المؤرخين» هو النفاذ إلى تكوين ظاهرة الإسلام ومجموعاته الأولى في صلته بالديانات السابقة عليه. واعتقد أن سياق العولمة في المجال الأكاديمي يمكنه أن يدشن حقيقة رسالة الإسلام إلى الناس كافة، مبرر وجوده الأول، من خلال علم مقارنة الأديان، الذي يدرس النصوص المقدسة في أفق وجوه التوافق عبر استراتيجية تتراجع إلى الخليقة الأولى، للوقوف على اللحظة الأبدية المشتركة، التي راحت تتنوع وتختلف، من خلال تصرفات وتحوّلات الإنسان ومحيطه.
نعيش اليوم ونقترب من مفهوم اللوح المحفوظ، الذي لا يغادر لا كبيرة ولا صغيرة إلا وأحصاها، على ما جاء في القرآن الكريم. ونعني بذلك، الألواح الإلكترونية التي تحفظ المعلومات وتخزّنها، وتُيَسّر الرجوع إليها وحفظها. وعليه، ففكرة اللوح المحفوظ تقربنا من اليقين باليوم الآخر، حيث يأتي كل واحد من الخلق ويحمل معه كتابه، كما أن فكرة اللوح المشكّل من ذاكرة من الومضات الإلكترونية ومن علاقات تواصل سبرَّانية، تُمكن الأمم والمجتمعات التي ترجم إليها القرآن، أن تتواصل مع لغاتها ولهجاتها الخاصة، لمعرفة بيان القرآن الكريم ومفرداته فيها. فقد صرنا اليوم نعرف من خلال البحث الأكاديمي الرصين، أن اللغة، خاصة منها المقدسة، لا يتوقف معناها، وأن مدلولها غير تام ما دامت تتواصل وتتفاعل مع المجتمع والتاريخ، نجم عنه إعداد معاجم وفهارس لضبط المعاني وفهمها، من خلال نشأتها وما آلت إليها من خلال تطورها. ولعّل أعظم إنجاز ينتظر القرآن الكريم هو، استقطابه لكل اللغات واللهجات الموجودة في العالم، ومن خلال ثقافات وديانات الحضارات كافة التي يزخر بها كوكب الأرض من أجل تحقيق عالمية الرسالة الإسلامية، من خلال دراسة نصها الأعظم، على منوال وغرار ما جاء في «قرآن المؤرخين».
كاتب وأكاديمي جزائري
شكرا للأستاذ المحترم على الطريقة الحية والشيقة التي تناولتم بها موضوعا كم تناوله كثيرون وكنا نوقف القراءة في الوسط.. وجزاكم الله خيرا فقد ذكرتني بهذا المؤلَّف “قرآن المؤرخين”* الذي كنت وضعته في لائحة الكتب التي سأقتنيها ثم نسيت وخرج من بالي.. والآن سأقوم باللازم..
.. مع التحايا..
____________