الوباء وهزيمة ترامب!

تنبهر العين بطريقة مباشرة، من دراما تطورات الوباء في بلاد يحكمها زعماء، أو حكومات شعبوية شهيرة، كما يظهر من تقدم مركز الولايات المتحدة والبرازيل وروسيا والهند والمكسيك وإيران وتركيا، على قائمة الإصابات وتقدم أرقامها، والفضل يعود إلى ترامب وبولسونارو وبوتين ومودي وأوبرادور وخامنئي وغيرهم.
في تلك البلاد، تجتمع الحكومات على معاداة النخبة والمؤسسة، والحريات العامة والغرباء، ويتحفظون علناً على آراء العلماء والخبراء، ويدعمون غالباً نظريات المؤامرة، ويدّعون أن لديهم من الحسّ العام، ما يتفوق على أهل العلم والمنطق. رفض ترامب التحذيرات لشهرين وتوقع معجزة سحرية يختفي فيها الفيروس، وتكلم عن نفع الحقن بالمعقمات، وانقض بطريقة مقلقة على الصينيين. كما شجع بوريس جونسون مواطنيه في البداية على متابعة الاختلاط، وقلل من أهمية الكمامات، وتجنب المصافحة، في الوقت الذي ابتدأت فيه أمم أخرى بحظر التجوال الشامل. بولسونارو كان نجماً ساطعا، لم يدعم الاحتجاجات على الإغلاق كما فعل ترامب وحسب، بل طرد وزيرين للصحة، ورأى في المرض مجرد استنشاق. وغلا وفار كثيراً ونفش ريشه، ثم وقع بنفسه أسيراً لدى الفيروس، مثل ترامب وجونسون.
رفضت إيران الثيوقراطية، بقيادتها التي تدعي أن مرجعية سلطاتها من السماء، الإصغاء إلى أي تحذيرات من إعادة الانفتاح قبل الأوان، وتسببت في معاناة شعبها من دخول سريع على خط العدوى الزاحفة من بين أوائل البلدان، وهي تتعرض حالياً إلى موجة ثانية لا تقل خطورة عن سابقتها. وليست بقليلة تلك المخاوف من انتقال تلك الجائحة عن طريق «العوامل الإيرانية» إلى كلٍ من العراق ولبنان وسوريا، وربما دول الخليج أيضاً. قالت أكاديمية أمريكية من أصل إيراني، إن التوتر ما بين الصحة العامة والصحة الاقتصادية زائف أو كاذب.. وهذه بلاغة في وصف مبالغة الشعبويين في قلقهم لما سيلحق بالاقتصاد الوطني والدولي من الجائحة. وليست تلك طريقة تفكير آخرين يضعون صحة الاقتصاد- من حيث هو رأسمالي- وتخفيف أثر الوباء عليه في حسابهم دائماً، من دون تركيز على مواجهة انتشار الفيروس، وتسببه بكارثة غير مسبوقة إنسانياً واجتماعياً، ومن ثمّ في كل مجال آخر. يتوافق هذا الأمر مع ميول يمينية متطرفة، في تكثيف القلق حول خسائر الشريحة الأكثر غنى وقدرة، وكأنها تمثّل ومصالحها كلّ الاقتصاد الوطني.
في جانب آخر، يثق الزعيم الشعبوي بقدرته على التنبؤ بنتيجة رمي النرد كالمقامر بحدسه وحسه، مستعجلاً اتخاذ الموقف الذي يراه لا يحتمل انتظار تشغيل المنطق والعلم والخبرة والقياس، فيطرح حلولاً مرتجلة لعلها تصيب ولا تخيب، فتكون الجائزة تأمين نجاحٍ أسهل في الدورة الانتخابية المقبلة، الموضوع الحاسم والأكثر أهمية مما هو اجتماعي واقتصادي وسياسي، وربما تاريخي.
ربما اندفع ترامب بسلوكه هذا مع الوباء، في محاولة لتهدئة تململ رجال المال والأعمال من دخول مسار من التصعيد والقطيعة مع الصين، التي ترتبط أعمالهم بها بالكثير من المجالات والشراكات.. ولكن – كما ظهر في الفترة الأخيرة – لم ينفعه ذلك، وتخندقت تلك الشريحة بمعظمها وراء بايدن والديمقراطيين، على عكس الواقع الاجتماعي- السياسي طوال تاريخ الولايات لا بدّ أن الصين وإيران قد التقطا أنفاسهما قليلاً بهزيمة ترامب، ولكن الطرف الأكثر ارتياحاً هو مراكز القوى الأوروبية، التي مارس المتحدة.

«المؤسسة» الأمريكية كانت بالمرصاد، مع معظم الجسم الإعلامي الذي انضم جزؤه الجمهوري بالتدريج إلى قاعدته الديمقراطية

الرجل ضدها تنكيلاً وابتزازاً لم تشهدهما العلاقات بين طرفي المحيط الأطلسي بعد الحرب الكونية الأخيرة. من جهة أخرى، تنطبق المفاهيم المتعلقة بالمصلحة الانتخابية على عالمٍ متطور أكثر أو أقل، ولا ينطبق إلا جزئياً أو بطريقة مشوهة على عالمنا نحن أهل العالم الثالث، حيث لشعبويتنا وجوه أخرى. فليست لدينا دورات انتخابية ولا محاسبة برلمانية ولا حرّية في التظاهر أو الرأي والتعبير ولا حدود لتحكّم الزعيم بثروات الدولة وسيادتها. هنا يسود الدجل والنفاق، أو الكذب بتسمية أبسط، ويمكن التلاعب بالأرقام حسب المصلحة، أو إنكار الحقائق والإيهام بقدرات خاصة للشعب المعني تقاوم الوباء جينياً.. وكلّ ما هو من هذا القبيل، الذي تكونت لدينا خبرة طويلة به، في سوريا مثلاً، بلدنا الضائع حتى الان في رحلة أوديسية للعودة إلى شعبه. هنا نلتقي أيضاً مع شعبويات العالم في موقفها من الثقافة والعلم والخبراء، وإنكار عجزنا وتخلفنا من حيث الآليات والأدوات والقدرات، ونفي هشاشتنا العميقة أمام الوباء. نلتقي مع عقيدة ترامب في الواقع والمزاج، ولكنه يرمينا بعيداً عنه بازدرائه للفقراء والملونين، مشاريع الهجرات اللاحقة.
لننظر قليلاً في الأمر: هل يمكن مواجهة الوباء أو أي مصيبة يرزح الناس تحتها، من خلال مفهوم «الممانعة» الزائف مثلاً؟ أي أن نملأ الدنيا صراخاً غاضباً من الاحتلال الصهيوني والإمبريالي، في حين أن كلّ ما نجهّزه لأولئك الأعداء من عدة وعتاد وموارد بشرية نستخدمه في مواجهة المجتمع، وننهبه ونسلبه ونقتله ونسجنه ونشرّده وندمّر مساكنه، لنجعل منه عبرةً لمن اعتبر؟ أو ربما يمكن الاستناد إلى نظريات المؤامرة التي يهواها الشعبويون في كلّ مكان، والاكتفاء باعتبار الوباء باباً لمحاربة الشعوب وإلهائها، أو توجيه ضربة كبيرة للاقتصاد العالمي يستفيد منها قلّة من المتآمرين لقلب الأوضاع، أو لترويج أدوية معينة مثلاً؟
قد ينفع أيضاً تسهيل الأمر والاستهانة به، واعتباره مجرد أنفلونزا عادية، سيكون من الطبيعي أن تستهدف كبار السن والمرضى والعجزة، وهم أساساً عبءٌ زائد يُستحسن التخفّف منه لتسهيل الحركة. وغير ذلك، يبقى ذلك من أجمل الوسائل في عين الطاغية وأحبّها إلى قلبه من أجل تبرير حالة الطوارئ، وفرض شكل مطلق من الانضباط، مع الصمت وتنفيذ الأوامر وقطع أي تواصل خارج الدائرة أو داخلها، وانتظار الموت أو النجاة، وكلاهما قريب في بؤسه إلى الآخر.
بالعودة إلى عنوان الأخبار العالمية اليوم: يمكن في هزيمة ترامب وسقوطه بطريقة مدوّية في الانتخابات، تلمّسُ آثار سياساته الشفوية، المرتجلة، العصبية، غير المتوقّعة، المغامرة، المعتمدة على أعراف شبيهة بأعراف سوق السمك أو سوق الأغنام في بلادنا.. وهو في ذلك لم يُهزم وحسب، ما زال يمعن في سياسة الإنكار، ورفض تصديق تلك الخسارة. بالانعكاسات المباشرة، قد يخسر الكثيرون منا بعض النقاط. فمن يرى أن من الأفضل والأكثر واقعية قرعُ طبول الحرب مع إيران، كطريقة لا مناص منها لتقليم أظافرها وعدوانيّتها، سوف يفتقد ما كان يساعده على النوم ليلاً مما يقدّمه ترامب ونتنياهو من استعراضات عسكرية في بنيتها أكثر مما هي سياسية، ويستوي في ذلك أهل الخليج في قلقهم المشروع من المشروع الإيراني، مع أهل العراق وسوريا ولبنان واليمن، أرهقهم الطموح والمغامرة الإيرانية، وأدخلهم في فوضى لا يمكن أن تكون خلاقة بشكلٍ من الأشكال.
لقد جعلنا دونالد ترامب مشدودين إلى مفاجآته، بالنسبة إلينا في سوريا؛ حيث يرغي ويزبد ويتوعّد يوماً، ثمّ ينتهي إلى ضربة صاروخية معروفة ومحدودة النتائج في اليوم التالي؛ أو يسحب قواته من دون سابق إنذار من شرق وشمال البلاد، ليصعق حتى جماعته في البنتاغون؛ وهو يؤكد مرة أن سوريا بلد لم يبق فيه من مطمع، لأنه أصبح مجرد» رمال ودماء» ويمرّر في مرة ثانية قانون قيصر، الذي يعادل حرباً على النظام.. فمن الطبيعي للسوريين أن يصابوا بالحيرة التي تضاعف اليأس، وأن ينتظروا مفاجآت ترامب ونزواته، حتى تلك التي يدعي وصهره أنها نتاج عقلٍ ودراسة جدوى واستراتيجية خلاقة، مثل «صفقة العصر» وتمرير أكثر مما تطلب إسرائيل على شكل أوراق انتخابية له ولنتنياهو- المأزوم أساساً – لينتهي بضربات سريعة الإيقاع تستعجلها مواعيد الانتخابات، تقلب جزءاً مهماً من المنطقة إلى إعلان أفضلية إسرائيل على إيران، من دون حسابات دقيقة أو بعيدة المدى. وكان أهل ترامب في المنطقة مشدودين إلى الانتخابات الأمريكية، يتوقعون فوزه بسهولة كما فعل في المرة الماضية، باستخدام الوسائل التي يفهمونها ويحبونها، على طريقة الوجبات السريعة.. وأن كلّ شيء قابل للشراء أو البيع.. على الطريقة القديمة من أيام الفورة النفطية والحرب الباردة. ولكن «المؤسسة» كانت بالمرصاد، مع معظم الجسم الإعلامي الذي انضم جزؤه الجمهوري بالتدريج إلى قاعدته الديمقراطية؛ وكانت أخطاء ترامب تكمن له في الزاوية أيضاً.. ولكن الأكثر أهمية هو كمين الفيروس الغدار، الذي خرج على شكل موجة عالية جرفته معها. لبايدن أيضاً حسابات ومكاسب وخسائر على الطريق، وقد أصبح بطل المشهد في كلّ الأحوال.. ولكن غداً نهار آخر!
كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية