الوثائقي الأيطالي «المسير إلى روما»: تزييف التاريخ عبر السينما

محمد عبد الرحيم
حجم الخط
0

القاهرة ـ «القدس العربي»: «كان هناك إحساس قوي بالعنف المُحتمل… تهديد ضد كل أولئك الذين نجوا من الفاشية خلال مسيرة روما». (النائب الاشتراكي جياكومو ماتيوتي، المقتول على يد الفاشيين عام 1924)
«كان في إمكاني تحويل هذه القاعة الرديئة الصامتة إلى معسكر… كان في إمكاني إغلاق أبواب البرلمان وإنشاء حكومة من الفاشيين، لكنني لم أرغب في ذلك، على الأقل في الوقت الحالي».
من كلمة موسوليني أمام البرلمان

عام 1922 قاد بينيتو موسوليني (1883 ــ 1945) مسيرة فاشية من نابولي إلى روما، وعن طريقها تم الاستيلاء على إيطاليا بالكامل، وأصبح موسوليني رئيساً للوزراء، فكان أول استيلاء فاشي على السلطة في العالم، وبالتالي تم تصدير الفاشية إلى أوروبا وإن اتخذت أشكال ومُسميات أخرى. هذه الحركة أو المُعتقد الذي ظن البعض أنه انتهى بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة دول المحور وقتل موسوليني نفسه واختفاء هتلر، سواء بالقتل أو الانتحار، بدأ في الصعود مرّة أخرى، ولا أدل على ذلك الانتصار الانتخابي لزعيمة اليمين المتطرف (جيورجيا ميلوني) رئيسة الوزراء الإيطالية الحالية، التي تنتمي إلى حزب (أخوة إيطاليا) وهو الذي ينتمي روحياً وفكرياً إلى فاشية موسوليني ـ عندما كانت مراهقة انضمت إلى جناح الشباب في حزب الفاشية الجديدة ـ ترأست ميلوني الوزارة في أكتوبر/تشرين الأول 2022، وكأنها تحتفي بمرور 100 عام من المسيرة التي أسست للوجود الفاشي في إيطاليا، ومن ثمّ أوروبا عام 1922.
عن هذه الفكرة التي تحولت إلى واقع كابوسي يبدو أنه لم ينته بعد، يدور الفيلم الإيطالي الوثائقي «المسير إلى روما» The March on Rome، الذي حاول تفنيد ونقد وإعادة النظر في هذا الحدث الذي غيّر من شكل أوروبا والعالم. الفيلم سيناريو مارك كوزينز، توني ساكوشي، توماسو رينزوني. تصوير تيموتي أليبراندي، مارك كوزينز. صوت كونسيتا لومباردو، فيليبو ليلي. أداء ألبا روهرواشر. إخراج مارك كوزينز. إنتاج إيطاليا 2022. عُرض الفيلم مؤخراً في سينما (زاوية) في القاهرة ضمن برنامج (نظرة على السينما الإيطالية).

إنقلاب موسوليني

بدأت المسيرة من ميلانو، وكانت الخطة بعد ذلك هي الاستيلاء على العاصمة نفسها، فبدأ الآلاف من أصحاب القمصان السوداء في السير أو ركوب القطارات نحو روما. على إثر ذلك لم يملك رئيس الدولة الملك فيكتور عمانويل الثالث إلا تعبئة الجيش ضد الفاشيين أو الاستسلام، فاختار الخيار الأخير، وتم تعيين موسوليني رئيساً للوزراء، فمن الواضح أن الجيش الإيطالي والدولة بشكل عام، إما سمحوا للفاشيين بالتصرف مع الإفلات من العقاب، أو ساعدوهم في تمردهم مع استثناءات قليلة.

تولى موسوليني الحكم حتى عام 1943، عندما تم القبض عليه بأمر من الملك، فتم تعليقه من قدميه أمام حشد من المتظاهرين في ميلانو، بعد أن أطلق عليه أنصار الشيوعية النار أثناء محاولته الهروب متنكرا في زي جندي ألماني.
ويرى بعض المحللين الحداثيين أن مسؤولية نجاح المسيرة على روما لم تقع على عاتق الفاشيين أنفسهم، بل تقع بالكامل تقريباً على عاتق الملك والنخب الليبرالية. وهكذا تم تفسير الانهيار المفاجئ لسلطة الدولة إلى حد كبير من خلال قرارات الأفراد، وليس من خلال قوة أصحاب القمصان السوداء.
فدون المسيرة إلى روما، لم يكن صعود هتلر إلى السلطة ليحدث، ولم تكن الحرب العالمية الثانية لتندلع. هذا الحدث الذي كان موضوعاً للكثير من النقاش والجدل التاريخي والسياسي، وصفه البعض بأنه خدعة، والبعض مهزلة، والآخر انقلاب، بينما ادّعى الفاشيون الإيطاليون أن المسيرة كانت ثورة، أو على الأقل انتفاضة شعبية، لكنها في الحقيقة كانت حملة عقابية واسعة النطاق.

وثائق بصرية مزيفة

يتخذ المخرج الإيرلندي مارك كوزينز من فيلم أمبرتو باراديسي A Noi (لنا) 1923 وثيقة بصرية وسردية يمكن من خلالها كشف كيفية تزييف التاريخ عبر فن السينما، بداية من المسيرة نفسها وعدد الحشود، بل ووجود موسوليني نفسه، الذي ظل مختفياً في الواقع لعقد صفقات في الظلام، حتى يستتب الأمر ـ ينجح الانقلاب ـ ثم يظهر في الصورة، في العديد من الأوقات والأماكن، وكأنه البطل الأوحد. ويوضح كوزينز عدوى أسلوب باراديسي كمُزيّف كبير للحقائق، وجعل الانقلاب ثورة، وهو ما تحقق في ما بعد في فيلم (المدرعة بوتمكين) 1925 لسيرجي إيزنشتين، وفيلم ليني ريفنستال (انتصار الإرادة) 1935. حقق باراديسي ذلك من خلال زوايا الكاميرا وأحجام اللقطات، التي تصور الحشود في أعداد مضاعفة، كذلك تكرار اللقطات للإيحاء بكثرة الأعداد من السيارات والأسلحة، فالسيارة المُحمّلة بعدة رجال من أصحاب القمصان السوداء تظهر عدة مرات في مشاهد مختلفة، وكأنها انقسمت إلى عدة سيارات، لكنها في الحقيقة سيارة واحدة لا أكثر ولا أقل. كذلك وقت تصوير المسيرة نفسها، التي كانت تحت الأمطار في الحقيقة، والرجال المنهكون، متسخو الملابس، وأعدادهم القليلة. لكن.. هل هذه صورة تليق برجال الفاشية؟ بالطبع لا، لذا سيتم التصوير بعد ذلك بأيام، في جو مشمس صحو، ورجال في قمة النشاط والانضباط، والملابس المهندمة، إلا أن بقايا المياة على أرض بعض الأزقة ـ بخلاف الميادين ـ تكشف الحقيقة. وهكذا تتوالى اللقطات التي تختلق وثيقة بصرية، سيعتمدها الفاشيون بعد ذلك وكأنها حقيقة ما حدث، بل وسيصدقون ذلك ويورثونها الأجيال القادمة. ألم تذكركم هذه المهازل بانقلاب آخر أصبح يُسمى ثورة؟
ويعقد المخرج مقارنة ساخرة بين فيلم باراديسي وعدة أفلام جاءت بعد ذلك لتنتقد الفاشية وتسخر منها، فيقدم لقطات من أفلام كل من بازوليني، بيرتولوتشي، أوجستو تريتي، إلفيرا نوتاري، وإيتوري سكولا.

بالحب إن أمكن… بالقوة إذا لزم الأمر

مقولة موسوليني هذه لم يتحقق منها سوى شطرها الثاني، فعل (القوة) هذا يتم استعراضه في تحالفات ومواقف موسوليني ورجاله، ومدى تأثيره في السياسة وأنظمة الحكم الأوروبية، ومجموعة من الديكتاتوريين من مدمني الشرفات ـ إلقاء الخطب من شرفات قصور الحُكم ـ فالروح الفاشية انتقلت إلى العديد من البلدان، بل شجعه الكثيرون، يذكر الفيلم الشاعر عزرا باوند، وتشرشل نفسه، الذي قال عن فاشية موسوليني إنها «أعظم مشروع على قيد الحياة» ناهيك عن فرانكو وأتاتورك، وغيرهم الكثير.

ولا ينسى كوزينز في بدايه فيلمه عقد مقارنة بين مسيرة روما وغزو مبنى الكابيتول في الولايات المتحدة من قِبل مجموعة من أنصار ترامب غير الراضين عن نتائج الانتخابات الرئاسية. وسؤال أحد الصحافيين ترامب، عن استخدامه لإحدى عبارات موسوليني، وهل بالفعل يعرف ترامب صاحب هذه العبارة، وما يُمثله في التاريخ، وما بين تردد ترامب في كونه يعرف صاحبها من عدمه، إلا أنه يُقر في الأخير بأنه مقتنع بها.
وبخلاف هؤلاء الديكتاتوريين، نجد تحالفات فئات مختلفة، كالجمعيات الماسونية التي وفّرت الأموال للحركة، بل نفذت بعض العمليات الانتقامية لصالحها، ناهيك عن الشاعر غابرييل دانو نزيو، الذي يكتب القصائد ويتغزل في الحروب والجثث المتفحمة وأشلاء الضحايا، كدعاية مواكبة لاحتلال إيطاليا لإثيوبيا، واستخدام غاز الخردل للقضاء على الناس والأرض هناك، هذه الجثث المنتشرة تقابلها خطبة هيلا سيلاسي عام 1936 والعديد يقاطعونه وهو يناشد المساعدة في عصبة الأمم.

الأشياء التي أهتم بها لا تهتم بي

تقدم الممثلة الإيطالية ألبا روهرواشر شخصية (آنا) جالسة في لقطة قريبة متوسطة، حيث تعكس ملامح وجهها تداعيات الأحداث وما آل إليه الأمر من صعود الفاشية ووعودها، ونهاية جثة موسوليني المُعلقة. هذه الملامح التي كانت تصدق صاحبتها تماماً جهاز الدعاية الفاشي، مُتذكّره الخطب والأغنيات الدعائية، وكذا المباني الضخمة التي توحي بالقوة والذكورية المفرطة، وكذا التكرارات والسمترية المنضبطة، الخالية من آيات الجمال، فقط كانضباط عسكري يمثل المجموع ـ كوجود مبنى تمثل أدواره مجموع حروف اسم موسوليني ـ (آنا) التي اقتنعت في البداية بوعود موسوليني، لا تعرف ماذا تفعل الآن بعد كل ما حدث، لتبدو الحيرة وآيات اليأس على وجهها، ربما كمرآة لجيل آخر الآن يعود بقوة ليمثل أفكار وأوهام الدوتشي، لتكرر بدورها عبارتها وكأنها تحادث نفسها.. «الأشياء التي أهتم بها لا تهتم بي».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية