بغداد-“القدس العربي”: نسفت الوثائق الأمنية الإيرانية المسربة عن العلاقة بين طهران والنخبة السياسية العراقية، وانتقال التظاهرات في العراق إلى العصيان المدني، إضافة إلى المعالجات الحكومية العقيمة لأزمة الانتفاضة، كل محاولات أحزاب السلطة لبث الحياة في جسد العملية السياسية الفاشلة.
وقد شكل الكشف عن وثائق أمنية عن تغلغل النفوذ الإيراني بين أوساط النخبة السياسية العراقية بعد 2003 صفعة إضافية لجهود الأحزاب والقوى السياسية في التشبث بالسلطة والإبقاء على حكومة عادل عبد المهدي. ورغم أن العراقيين يلمسون يوميا حقيقة هيمنة إيران على النخبة السياسية الحاكمة، إلا أن نشر الوثائق في هذا التوقيت المتزامن مع انتفاضة عارمة ضد الفساد والتبعية اقتربت من نهاية شهرها الثاني، شكل فضيحة مدوية أسقطت ورقة التوت الأخيرة عن النظام السياسي السائد في العراق منذ 2003 وأظهرت تفاصيل دقيقة دعمت تلك الشكوك حول طبيعة العلاقة المشبوهة بين الطرفين.
ويؤكد مطلعون أن الإعلان الأمريكي عن الوثائق الإيرانية حول العراق هو بداية كشف المزيد من الوثائق عن تورط السياسيين العراقيين في المشروع الإيراني الذي زرع عملاء تابعين لطهران في كل مرافق الدولة العراقية بعد 2003 والذين نفذوا فتنة طائفية تسببت في قتل وتهجير الملايين لتمزيق النسيج الاجتماعي العراقي وإضاعة الهوية الوطنية ونهب خيرات البلاد. وما زاد من حرج النخبة العراقية ومنح الوثائق المسربة مصداقية أكبر، صمت بغداد عن التعليق على الحراك الشعبي والتظاهرات الغاضبة التي تجري في إيران هذه الأيام.
وتزامن الإعلان عن الوثائق الإيرانية مع تصاعد وتيرة الانتفاضة في العراق ودخولها مرحلة العصيان المدني الذي شل الحياة في بغداد والمحافظات الجنوبية من خلال تعطيل العمل في مؤسسات الدولة والمدارس والجامعات مع غلق العديد من الموانئ وحقول النفط والجسور، ضمن مرحلة جديدة من الانتفاضة، لتكون رسالة الشعب، هي “الإصرار على تحقيق الإصلاح الجذري ومنع رموز الفساد والتبعية من الاستمرار في الحكم”.
وفي المقابل تعمد الحكومة وأحزابها إلى إجراءات وخطوات تعكس حجم المأزق الذي وضعت نفسها فيه جراء سياساتها الفاشلة، كما تعكس تخبطها وعجزها في مواجهة التحدي الشعبي الرافض لاستمرار وجودها. وبات واضحا أن كل محاولات الأحزاب للتشبث بالسلطة من خلال طرح خطط لمعالجة الأزمة، أثبتت انها مجرد محاولات يائسة لإلقاء طوق نجاة للنظام السياسي الفاشل، وأن وعود الإصلاح التي تطلقها هي مجرد ابر تخدير منتهية الصلاحية لم يعد لها أي استجابة من الشارع الغاضب.
وضمن هذا الإطار جاء اجتماع 12 من الأحزاب الحاكمة واصدارها ما يسمى بخطة إنقاذ تعطي الحكومة 45 يوما لتنفيذ الإصلاحات وتعديل العملية السياسية، إلا انها قوبلت برفض واسع. وما يؤكد كون المبادرة الجديدة ولدت ميتة ولا يمكنها انقاذ الحكومة أو العملية السياسية، أن أطرافا أساسية مشاركة في العملية السياسية منها كتلة سائرون الصدرية وائتلاف الوطنية بقيادة أياد علاوي وجبهة الانقاذ، أعلنت معارضتها لمبادرة الأحزاب.
أما المحتجون فكان ردهم سريعا بإحراق وثيقة الأحزاب في ساحة التحرير وإصدار بيان عن “الملتقى الوطني للمساءلة الشعبية” أكد “رفض مخرجات اجتماع الكتل السياسية” مشددا على مطالب الشعب وأبرزها إقالة الحكومة الحالية وإجراء انتخابات مبكرة خلال ستة أشهر بعد تشريع قانون انتخابي عادل وحل مفوضية الانتخابات الحالية، وتقديم المدانين والمحرضين على قتل وخطف المتظاهرين إلى المحاكم المختصة. كما طالب البيان تقديم كبار المسؤولين الفاسدين إلى القضاء، وتشكيل لجنة تعديلات دستورية من شخصيات وخبراء مستقلين، وإلغاء نظام المحاصصة الحزبية والطائفية والقومية في البرلمان والحكومة، وحصر السلاح بيد الدولة.
وكان احساس الأحزاب الحاكمة بالفشل في إقناع الشعب الثائر هو الذي دفع العديد منها إلى إطلاق تهديدات وتحذيرات للمعترضين على العملية السياسية، للقبول بإصلاحات الأحزاب الحاكمة أو مواجهة انهيار الوضع الأمني، ومن ذلك تحذير رئيس الحشد الشعبي فالح الفياض في ملتقى دولي من “الانزلاق إلى الفوضى في العراق” وتهديدات قادة ميليشيات آخرين بالاتجاه نفسه، كما كشف رئيس كتلة “النصر” في مجلس النواب، عن جهات سياسية مرتبطة بإيران، لم يسمها، عمدت إلى إخافة الكتل السياسية، وتهديدها بأن رحيل رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، سيؤدي إلى فوضى وحرب أهلية. إضافة إلى تسريبات شيعية بأن المدن السنية ستنضم إلى التظاهرات قريبا بدعم أمريكي، وأن تنظيم “داعش” سيعود من خلالها، وغيرها من السيناريوهات التي يراد منها إخافة الشارع للقبول بما موجود.
والتخبط لم ينحصر في الأحزاب بل شمل الحكومة التي عبرت إجراءاتها عن الفشل في مواجهة الانتفاضة، ومن ذلك إعلانها “اعتبار المحرضين على إغلاق المدارس والدوائر إرهابيين” ومواصلتها حملات اعتقال المتظاهرين وخطف الناشطين والإعلاميين التي رد عليها مجلس القضاء الأعلى بإطلاق سراح 2400 معتقل من المتظاهرين والناشطين ممن تم اعتقالهم خلال الانتفاضة من دون مسوغ قانوني.
ويبدو أن محاولات أحزاب السلطة وحكومة عادل عبد المهدي، الترويج لقوانين وخطط لمواجهة الأزمة، هي محاولات فاشلة عديمة الجدوى رفضتها الانتفاضة، لأن الحكومة تحاول تجاهل حقيقة ساطعة تتمثل في انقطاع كل جسور الثقة بين الشعب ورموز العملية السياسية، وبالتالي فإن رفض الشعب لإجراءات الأحزاب والحكومة ليس لوجود ثغرات وتلاعب كبير في القوانين والإجراءات التي ترسخ سلطة الأحزاب الكبيرة فحسب بل لأنها صادرة عن رموز الفشل والفساد، الذين زادت عزلتهم بافتضاح علاقتهم المشبوهة مع الخارج وفق الوثائق الإيرانية المسربة، كما يؤكد أن القوى السياسية تتخبط وليس لديها حل للأزمة بل تنتظر إملاءات من الخارج.