الوضع ‘الثوري’ للربيع العربي بين اضطرام الألم الاجتماعي وانعدام الوعي التاريخي

حجم الخط
0

رافق زخم التحرك الشعبي ضد الواقع السياسي القطري العربي، جدل نظري تنظيري غارق في التحليل السوسيوسياسي للأمة العربية، طارحا تساؤلات ومجترا أخرى حول المضمون الفكري والسياسي لتلكم الاحتجاجات، رافضا بعضها وفق منظوره النظري ذاك لإطلاقه صفة الثورة على واقع هيجان الشارع، في حين ‘ثوّرها’ البعض الآخر بالاستناد إلى مقاصد المحتجين التي تهتف وتهدف إلى ضرورة القطع مع الماضي.
ومن دون إعادة انتــــاج ما سبق وشُرّحت وشُرحت به الحالة التاريخية الاستثنائية للشارع القطري العربي، المنتفض على واقعه السوسيوسياسي، سنحاول مقاربة الظاهرة تلك وفق رؤية تحليلـــية قائمة على المحصلة التاريخية للحالة القطرية التي راكمت في جدليتها تجربة السلطة والمواطن، وفق معطى غير موضوعي في نسقية العلاقة بين المجتمع والدولة، مثلما هو حاصل في منشأ الدولة الحديثة.

دولة حديثة بسلطة قديمة
ليس يصعب على قارئ للتاريخ العربي أن يدرك دموية السلطة مذ صار العربي يتحول من نطاق سلطة رعوية إلى رعاية سلطوية، ولذلك أسبابه التاريخية المتداعية عن مسار تطور الوعي السلطوي للعربي، حاكما ومحكوما، من القبيلة إلى الدولة، لكن ما شد إليه انتباه الدارسين لحالة التحول في الوعي السلطوي تلك هو أن اللاوعي بضرورة التطور ذاته ظل سمة العلاقة بين الحاكم والمحكوم عبر مجرى التاريخ، وما نجم عن مجراه ذلك من تبدل وتحول على مستوى أنساق السلط وعلاقات الخضوع والإخضاع، فالدولة الحديثة بقيمها المؤسساتية المنفصلة عضويا المتكاملة وظيفيا لم يلامسها وعي العربي، سواء أكان حاكما أو محكوما وعليه استقر الوعي الغنائمي ذي الجذور القبلية الرعوية في ممارستنا للحكم، رغم انتقالنا الفطري من شاكلة الخيمة إلى قباب المؤسسات المظلمة.

تساؤلات حول المنبع الثوري
ربّ سائل قد يسأل علام انتفض المواطن في ثورات الربيع العربي إذن، في ظل افتقاد الجميع للوعي بالدولة ومؤسساتها بالنسبة للحاكم والمحكوم على حد سواء؟ وهنا يبرز ميدان التحليل العملي، المتداعي عن رؤية واقعية، لا متأت عن اسقاطات تاريخية ونظريات تفسيرية للتاريخ الثوري.
يمكن في البدء طرح سؤال جوهري، هو هل كان على الشعوب بالدول القطرية العربية أن تنتظر تراكم فشل النظم لأزيد من ستين سنة حتى تنتفض؟ وهل كانت النظم المعيدة دوما لإنتاج نفسها عبر عقود سبعة من الكينونة القُطرية العربية لا تدرك أن الشعوب قد تضيق ذرعا بها، في حال لم يتغير من واقعها شيء بعد قرابة القرن من التحكم والهيمنة على مصائرها؟
إن عدم مقدرة الشعوب على التحلي بالمزيد من الصبر ومواصلة تجرع فشل الدولة القُطرية المستتر، لم يكن نتاج نقد لفلسفة حكم والمحاور الكبرى والصغرى القائمة عليها، مثلما حدث أو يحدث في ثورات المعرفة الشعبية في بلدان الغرب، بل يمكن اعتبار اتساع رقعة الألم الاجتماعي ومقتضيات العيش، مقابل استشراء الفساد الذي صاحب الاستبداد فتولد عن ذلك الانفجار العظيم الذي حدث في سيدي بوزيد وامتدت رقعته الطبيعية الاتساع لتشمل عديد الاقطار التي تشترك في مشروطية الانفجار.

الوعي التاريخي
لذلك لم يكن التغيير الناتج عن حالة الانتفاضة تلك بالقيمة الكاملة التي تحدث عادة عندما يكون التغيير بالوعي، أي التغيير الاستباقي الذي يستهدف بالعقل تطهير مواقع صنع القرار الجمعي بمطهر الحرية، وإلا كيف نفسر الانشقاق الثوري ـ إن جاز الوصف ـ الذي بدأ يحصل في ليبيا في ما بين الثوار ذاتهم، بين مجاهر بالتملص عن القطر كلية لأنه كان مظلوما طيلة فترة الاستبداد ولم تكن منطقته تستفيد من خيرات أرضها، وبين متكلم عن فيدرالية ‘قبلية’ في بلد لا يزيد تعداد سكانه عن قرية من قرى الصين.
أتعس ما قد يلحق بالثورات هو ذهنية الغنيمة، فساعتها يتكلس مجرى انسيابها التاريخي ويتقلص وهجها فتستحيل إلى اداة مشكل تاريخي بعدما اُعتنقت واُتبعت بأمل أن تكون أداة حل، فمحاولات بعض مكونات النسيج القُطري في كل العالم العربي لسحب السلطة من طائفة ما بوصفها غنيمة للانتقام والحلول محلها، يثبت لا تاريخية التحول الثوري الذي رفع كعنوان للتغير الذي تأتى عن احتجاجات شعبية كبرى، فمركزية الوعي بالثورة ظلت قابعة في مسألة السلطة، لا بوصفها انعكاسا طبيعيا لبنية التفكير في المصلحة من التعايش الجمعي، بل بوصفها محور أداة النفع فقط، وبهذا ليس يصعب على الانكسار الثوري أن يتسرب إلى حقول وعقول الثورة، وتجليات ذلك بارزة في غير ما تجربة ثورية عربية تعفنت وصارت ضارة مضرة بالمجتمع، بعد إذ كانت أمله الوحيد في العودة إلى الحياة.
الثورة التي لا تشمل بظلالها ما هو ابعد من سلطة الحكم في ملامساتها لآفاق التغيير لا يمكن توقع ديمومتها واستمرارها، ذلك لأن اقتلاع سلطة الحكم ومنع تفريخ الطواغيت بزوايا قصرها، ليس أكثر من جزء من جزئيات البناء الثوري الحقيقي، لهذا ظلت الثورة تعيش بنا كمجتمعات عربية، بينما نرى من حولنا مجتمعات تعيش بالثورة كما هو حال فرنسا وبريطانيا وغيرها من الامم التي صنعت تحولات تاريخية في مفهوم وسيرورة الدولة الحديثة.
ولنا أن نتساءل في ضوء مفهوم الثورة التجريبي وليس اذاك المنغمس في وحل التنظير الخاوي، هل بوسعنا انجاز حركة ثورية وفق معطاها الـــتاريخي الواعي، في ظل ما يعيشه الانسان العربي من مأزومية أزلية على صعيد فهم الاشكالات التاريخية ذات الارتباط بتطورات الاجتماع بكل فروعه؟ هذا في الوقت الذي يتضارب فيه في ما بين السلط الرمزية والفعلية ويتداخل في عوالم الحضور الفردي والجماعي، بما يرى أنه يحقق مصلحته ويشبع جوعه، فحيثما تحققت مصلحته كانت سلطته، فهو ينتسب للدولة ليستحق من الوطن ما يستحق، وينتسب للقبيلة ليستحق منها ما لا تعطيه الدولة، وسينتسب للدين لينال ما لا تعطيه إياه الدولة ولا القبيلة، وبهذا تتعدد الولاءات بالإنسان العربي في حيز الدولة والوطن الشكلانيين في وعيه، هذا الوعي المؤسس على الغنيمة التي بأي وسيلة سلطة ملك سعى خلفها.

ضمور استمرارية الثورة في الوعي العربي
لم تجد الشعوب العربية من وصف لحركة احتجاجها على واقع استشراء الفساد والاستبداد، سوى مصطلح الثورة مع كل ما عاشته وعانته من ويلات هذا الوصف إبان فترة الحكم الثوري الفاشل، وهذا يحيل بالضرورة إلى سؤال حول دلالات المعنى الثوري في عقل العربي، فيظهر أنه لا يعدو للحظة العنف التكسيري، أي أن معنى الثورة مجتزأ في مفهومه لدى العربي ومختزل في شقه الأول التكسير ولا يعدوه إلى الشق البنائي، لأنه الشق الشاق والشائك في ذات الوقت وكل الاخفاقات الثورية تبدت في مرحلة ولوج الشق الثاني، اي مرحلة البناء، وما يحول دون بلوغ الفهم والوعي بالشق الثاني، هو الدافع الغنائمي طائفيا جماعيا وانانية فرديا، مثل هكذا فهم للفعل الثوري رسّخ شبه اعتقاد في وعي الانسان العربي بأن الثورة إنما هي عنف لحظي سياسي أو انقلاب شعبي يتم بموجبه تغيير واقع الحال وفق قوة ما، وذلك على غرار القوة الانقلابية التي تقوم بها المؤسسات العسكرية حين تهم بتقويض معالم النظام السابق، فهم اضاع به الجميع المعنى الآخر للثورة وهو السيرورة أو استمرارية الثورة.

الاغتنام الشللي للسلطة الثورية
إن النظرية الغنائمية للسلطة لم تتوقف عند الحد المادي أو الريعي في تنازعات الأسر والزمر المنتفعة، بل صعد أفقيا إلى فضاء النخب وصارت الشللية الايديولوجية تغتنم السلطة من أجل بسط رأيها لإنفاذ برامجها، ومنع القادمين من صناديق الاقتراع من الوصول إلى السلطة بحسبانها، وفق رؤيتها حمالة للتخلف حالمة بإعادة التاريخ القديم، ويظهر هذا جليا في تصرف العلمانيين في كل من تونس ومصر بعد هزيمتهم الانتخابية، وفي الجانب المقابل سعي الاسلاميين لبسط نفوذهم والاطباق على منظومة الحكم بشكل نهائي، عبر الشروع في استغلال مؤسسات التشريع التي اكتسحوها وسن قوانين تجعلهم يتغلغلون في كامل مفاصل السلط لغرض الاستدامة في التأثير على أداء المعارضة عبر مختلف مسحات حضورها في المشهد السياسي.
إن أزمة الحكم وسقوطها في دوامة العنف التغييري الثوري، هي جزء من أزمة الوعي بالدولة التي تحملها الجماعة والفرد في الأقطار العربية، ففي الوقت الذي تبدو فيه الدولة في الغرب ذائبة في التطور وظيفيا وفلسفيا، وعلى النطاقين العمودي والأفقي، نرى برؤية ارتجاعية نقدية بقاء مسألة الوعي بالدولة تتراوح مكانها الأول مذ صارت المجتمعات العربية تسعى للتحول من نمطية الانتظام الاجتماعي والسياسي القبلي إلى النظام المؤسسي للدولة، فعن أي ثورات نتحدث إذن، وعن أي تحول مدني للدولة والسلطة نتأمل؟

‘ كاتبة وصحافية سورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية