الوعي اللغوي العربي المشترك

قد يحدث أن يوجد فرق بين الحقائق العلمية وتصورات عامة الناس عنها، فعلى سبيل المثال ظل الناس يعتقدون لردح من الزمان، أن الأرض محور الكون وأنها مسطحة وأنها لا تدور ولا تَمورُ، حتى جاءت العلوم وصوبت هذه المعطيات وصار التصور العام قريبا من الحقيقة العلمية؛ وبذلك زال الفرق بين الوعي الخرافي المشترك والوعي العلمي الدقيق.
ويمكن القول إن المسافة بين الوعي المشترك بالمعطيات العلمية وما تقوله عنها الحقائق العلمية تتقلص كلما كانت الجماعات أقرب إلى هذه الحقائق، وأبعد من تصوراتها الموروثة التي يمكن أن تُرخى عليها سجف من المعتقدات والخرافات والأساطير.
اللغة أداة تواصل لكنها أيضا، وفي مستوى آخر، موضوع لعلم من العلوم تختلف تسمياتها القديمة والجديدة بين النحو وأبوابه، والبلاغة وعلومها واللسانيات وشعبها، ولذلك يمكن أن تكون للناس تصورات عنها تختلف عن حقائقها العلمية باختلاف الأزمنة والأمصار. فعلى سبيل المثال ساد لدى علماء العربية قديما تصور خرافي تمثل في قول بعضهم، إن العربية لغة أهل الجنة وأنها لغة مقدسة وبديهي أن العلم لا يقول بذلك لا قديما ولا حديثا. وحتى تزول الأسطورية من الأذهان ينبغي أن يُراجع الناس الحقائق التي لديهم عن اللغة ويسلموا للعلم بالحقائق التي توصل إليها على أنها هي الحقائق المقبولة على الأقل الآن وهنا.
في هذا المقال سوف نتوقف عند بعض التصورات التي لبعض الناس من العامة ومن «المثقفين» عن العربية، ونبين موقف اللسانيات – بما هي العلم المرجع اليوم- منها لنرى الفروق والأسباب الكامنة وراء تشبث الوعي المشترك بهذه المعتقدات على أنها حقائق. تبدو العربية الفصحى في تصورات الناس العامة وهو ما نسميه الوعي اللغوي المشترك، على أنها «اللغة الأم» و»اللغة المقدسة» بما أنها لغة القرآن وهي» اللغة الراقية» بما أن الإبداع يكتب بها وهي «اللغة الفصحى» بالنسبة إلى «العاميات» وأن «العربية في خطر» بما أن هناك لغات أخرى تتهددها بالإبادة حسدا لها على فخامتها ورقيها وفصاحتها وبلاغتها، وأن هناك من أبناء اللسان العربي يرفعون راية العامية لقتل اللغة، وقتل رمز الدين والهوية العربية. وهناك وعي آخر مختلف يرى أن العربية هي لغة معقدة وقديمة، وهي عائق أمام رقينا وتقدمنا، وأنه من الممكن أن ندحر العربية بلهجاتنا المحلية، أو بتعلم لغات أجنبية أخرى هي عنوان التقدم العلمي والتكنولوجي.

أما عن العاميات ففيها أيضا موقفان، موقف يزري بها بالنسبة إلى العربية ويراها أقل منها تهيكلا واكتمالا، ويرى أنها لغة اليومي ولا ترقى إلى أن تكون كالعربية لغة التفكير العلمي؛ وموقف آخر يرى أن العاميات هي روح الحياة اليومية، وأنها هي الشريان الحقيقي للتواصل، وأن من الممكن أن تكون سندا للإبداع وأن فيها من الحياة والروح ما لا يمكن أن نجده في العربية، التي حُنطت وجُمدت وباتت خيالات من الأعراب لا يمكن أن تواكب تطور اللغة اليومية، أو اللغات الأجنبية. تكون هذه الأفكار إذن الوعي اللغوي المشترك، أي صوتا جماعيا وفكرة تتقاسمها جماعة لغوية معينة بنيت على إدراك بسيط لما يمكن أن تعده وضعية لغوية.

أما عن العاميات ففيها أيضا موقفان، موقف يزري بها بالنسبة إلى العربية ويراها أقل منها تهيكلا واكتمالا، ويرى أنها لغة اليومي ولا ترقى إلى أن تكون كالعربية لغة التفكير العلمي؛ وموقف آخر يرى أن العاميات هي روح الحياة اليومية، وأنها هي الشريان الحقيقي للتواصل

يتعامل الإنسان مع لغته بموقف يبنيه بالاعتماد على رأي في الذات اللغوية بالنسبة إلى آخر لغوي هذا الرأي هو الذي تشكل في عصر الخلافة الإسلامية الأول، حين وصلت الفتوحات شرقا وغربا وهيمنت على أمم لها ألسنة مختلفة عن اللسان العربي، وأن أهل ذاك اللسان احتاجوا أن يتعلموا العربية لأنها تساعدهم على أن يندمجوا، لا في المجتمع، بل في الإدارة وبالأساس في الخطط الخلافية الكبرى. برز لدى العرب المسلمين شعور بالاستعلاء، وهو استعلاء الغلبة الفاتحة وبات يسكن العرب ضربٌ من التميز وشعور بأنهم ليسوا في حاجة إلى أن يتعلموا لغة الآخرين، فهم الفاتحون لديهم كل مفاتيح الثقافة والحضارة والمدنية العليا. على غيرهم أن يتعلموا لغتهم لا لأنها اللغة المهيمنة عسكريا، بل لأنها مهيمنة أيضا أدبيا وبلاغيا، وهي أفصح اللغات وما لغات غيرهم إلا لغو لا بيان فيها ومن هنا سميت تلك اللغات «أعجمية». هذا الموقف غير العلمي دخل للأسف كثيرا من كتب العلم ودخله من باب العصبية.

في العصر الحديث وحين صار العرب في وضعية مختلفة، وحين غزتهم أمم أخرى تنطق بألسنة غير ألسنتهم، وتدين بدين غير دينهم تولد شعور بالخوف على اللسان من الضياع، لأن اللسان إن ضاع، ضاع الدين كله. من هنا نشأ ضرب من الكره للغات الأجنبية عند المحافظين المتشبثين بألسنتهم؛ بينما رأى الحداثيون أن لغة «الآخر» هي لغة العلوم والحضارة المتطورة، لذلك لا بد من تعلمها هذا الموقف، وازاه شعور باستنقاص العربية أو التعامل معها دونية. هذه هي الأسباب الكبرى التي بنت هذا الوعي اللغوي المشترك حول العربية، أو اللغات الأجنبية المتعاملة ثقافيا وعسكريا معها، لكن الحقيقة العلمية التي جاءت بها اللسانيات وصدع بها في عصر ما قبل اللسانيات علماء منصفون تقول وبرصانة أقوالا أخرى لا يستسيغها المتعصبون. أول الحقائق التي تصدم الوعي اللغوي العربي المشترك، ولا يريد أن يسلم بها ويفر بآماله فيها إلى التكذيب هو أن ما يسمى «اللغة الأم» لا يصدق إلا على اللغة التي تتعلم دون معلم، ويكتسبها الطفل في أسرته بعد أن يسمع إنجازها على لسان أهله ويسمعها في محيطه الضيق فالواسع، هي لغة لا يلحن فيها من يتكلمها ويجري قواعدها إجراء حدسيا. المتكلم للغته الأم هو على حد عبارة اللساني نعوم تشومسكي متكلم مستمع مثاليIdeal speaker -listener هو متكلم يعرف لغته معرفة متقنة، دون أن تحصل له تلك المعرفة بالتركيب والدلالة وغيرها بواسطة خارجية.

وهذا لا ينطبق على الفصحى لأننا جميعا تعلمناها في المدارس، بل ينطبق على لهجاتنا العربية المتنوعة التي لا نحتاج لمعلم أن يعلمنا إياها بشكل مدرسي أو ما شابهه. بناء عليه فإن العربية هي لغتنا الأولى، لكنها ليست لغتنا الأم، والفرق بين اللغة الأولى، واللغة الأم أن الأولى هي التي تتنزل في جماعة ثقافية في مرتبة أولى بالنسبة إلى لغات أخرى في هذه الحالة فإن العربية هي الأولى لأنها لغة جميع المؤسسات: الدينية، التعليمية، الإدارية في البلاد العربية، وهذا بالنسبة إلى الفرنسية والإنكليزية وغيرهما من اللغات. يمكن للغة أم أن تكون هي اللغة الأولى مثل الفرنسية عند الفرنسيين والإنكليزية عند الإنكليز والأمريكية عند الأمريكيين، لكن الوضعية اللغوية العربية التي تعايشت فيها العربية مع عامياتها، وما تزال تتعايش هي التي جعلتنا، ودون أن نشعر نتفاعل مع لغة أم، ولغة أولى وربما اختلطت التسميتان فيختلط التصوران.
بعض المثقفين الذين يتقاسمون مع العامة الوعي العاطفي المشترك باللغة، يعتبرون قولنا هذا قولا مغرضا فيه دسيسة وتآمر لصالح اللغات الأجنبية على العربية. فنحن الذين نقول هذا القول باسم العلم اللساني نمتطي العلم من أجل الإخلال بالعربية الفصحى والازدراء بها ويمضي تأويلهم العاطفي والأيديولوجي بهم وبأقوالهم إلى تصور إضعاف العربية. والحق أن التاريخ لم يبن لنا أن لغة من اللغات العظيمة أضعفتها الدسيسة مهما كان نوعها، وهذا لا يمكن أن يتم مع الفصحى التي هي لغة الدين والمدرسة والمؤسسات الإدارية على اختلافها وهي اللغة التي بها نكتب الإبداع ونتعلم في المدارس.
لم نقل كثيرا من الحقائق الأخرى عن اللغة لكننت ركزنا على ما نعتبره مركزيا في علاقتنا العاطفية التي هي بوجه من الوجوه علاقة ضرورية لكنها غير علمية. هذا لا يعني أن نتخلى عن عواطفنا، بل أن نجعله خارج أطر العلم. على عتبات العلم كما على عتبات الجنة: السير على الصراط المستقيم أكثر سلامة.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية