الويلات التي لا تنقضي

حجم الخط
0

كان الكتاب كفيلاً بإنصاف أحد كبار شخصيات الموسيقى الأوبرالية في القرن التاسع عشر، على نطاق أوروبا والغرب عموماً، وألمانيا وفرنسا خصوصاً؛ لولا أنّ المؤلفة اختارت الدرب الأسهل بحثاً والأكثر ارتماء في حاضنة المستهلَك والتنميطي والدراماتيكي، والأقصر وصولاً إلى الجهات النافذة، أي الانطلاق من تهمة العداء للسامية. هذه حال إلين ثورنتون، في كتابها «جياكومو مييربير وعائلته: بين عالمين»، الذي صدر مؤخراً، ويعلن إعادة كتابة سيرة الموسيقار الألماني اليهودي (1791-1864)، وما لحق به وبأسرته من غبن وظلم وإقصاء بسبب انتمائه الديني اليهودي.
وثورنتون تتكيء على سردية مركزية، مثيرة حقاً، تشير إلى أنّ مييربير، في الأوج من صعود نجمه وانتشار سمعته، أخذ بيد ابن بلده الموسيقار الألماني ريشارد فاغنر، بل قدّم له الكثير من العون في صياغة عمله الأشهر «الهولندي الطائر»؛ لكنّ فاغنر تنكّر لمعلّمه (حسب الصفة التي تطلقها المؤلفة على مييربير، بصدد علاقته مع فاغنر)، ليس بسبب الغيرة أو الحسد كما يخال المرء، بل على نحو محدد بسبب يهودية الأوّل ومواقف الثاني المعادية للسامية، والتي عبّر عنها في مقالته الشهيرة «اليهودية والموسيقى»، 1850. التاريخ، من جانبه، لا يدوّن عداءً بين فاغنر ومييربير فقط، بل كذلك بين الأخير وعدد من كبار موسيقيي العصر أمثال روبرت شومان، أو الشاعر هنريش هاينه الذي كان يهودياً.
غرابة أخرى تؤكدها ملفات التاريخ، حول مقدرة تلميذ على دحر معلّمه بهذه السهولة وخلال فترة زمنية قصيرة نسبياً؛ خاصة وأنّ مييربير كان قد بلغ شأواً عالياً في عالم الأوبرا، حتى أنّ عمله «الهوغونوت» ضرب الرقم القياسي في 1,000 عرض على مسرح أوبرا باريس العريق. معروف، كذلك، أنّ مقالة فاغنر عن علاقة اليهودية بالموسيقى وقعها باسم مستعار لأنه لم يكن ساعة كتابتها يحظى بشهرة كافية، أو سطوة فنية ومعنوية، تتيح له الذهاب إلى منطقة محفوفة المخاطر مثل التشريح النقدي، أو بالأحرى الانتقادي، للتأثير اليهودي في فنّ معقد ومجرّد مثل الموسيقى، والأوبرا تحديداً.

ثمة «سياسة ذاكرة» عند الفلسطيني أيضاً، وثمة جَدْوَلة مشروعة لهذه السياسة حسب أطوار انقلاب الضحية إلى سفّاح، وسجين النازية إلى سجّان نازي، وقاطن الـ»غيتو» إلى مستوطن عنصري، وعابر البوّابات المخصصة لليهود إلى صانع حواجز مخصصة للفلسطينيين…

نحن، على نحو أو آخر، أمام إعادة إنتاج للمقاربة التي أشاعها المؤرّخ الإسرائيلي عاموس عيلون في كتابه «ويلات لا تنقضي: تاريخ اليهود في ألمانيا، 1743-1933»، وهو مجلد ضخم صدر سنة 2002 بالإنكليزية وسعى إلى تدوين أرشيف جديد حول وقائع مئتي سنة من حياة اليهود في ألمانيا. وقد يقول قائل، غير مخطئ في الواقع: كتاب آخر عن تاريخ اليهود في ألمانيا… ألا تكفي عشرات المؤلفات والمجلدات والأسفار؟ والجواب، الذي يلاقيه القائل كلّ شهر تقريباً: نعم، تنقيب دائب، وبحث لا يكلّ، ونزوع ستراتيجي في العمق؛ يستهدف إبقاء هذا التاريخ (لأنه، في نهاية الأمر، يصبّ في تيار أعرض هو التأريخ للمحرقة) حاضراً على الألسن، وأمام الأبصار، وفي الضمائر.
ولعلّ من غير المهمّ، بالتالي، أن يأتي أمثال عيلون وثورنتون بجديد، أو يعيد أيّ منهما إنتاج القديم، أو يُلبس القديم لبوس الجديد، أو حتى أن تُكتشف وثيقة هنا وسردية هناك… كلّ هذا لا يبدّل من طبيعة وأهداف ومقاصد النزوع الستراتيجي إياه، سيّما وأنّ القسط الأعظم من جوهر ذلك النشاط يدخل في باب عزيز على قلوب اليهود في سائر أرجاء الأرض، هو «سياسة الذاكرة»، أو الذاكرة بوصفها موضوع صناعة السياسة. لقد قرأ العالم مراراً تنويعات شتى على حكاية واحدة متماثلة: دخول فتى يهودي في الحادية عشرة من العمر إلى برلين سنة 1743، من بوّابة مخصصة لليهود والمواشي، راغباً في التعلّم كما قال للحرّاس؛ كي يصبح بعد سنوات معدودات «سقراط ألمانيا»، ويجري اسمه على كلّ لسان: موسى مندلسون، فيلسوف الأنوار في الفقه اليهودي، وصاحب لقب «موسى الثالث» بعد النبيّ موسى والمتصوّف الفيلسوف موسى بن ميمون.
وثمة في مجلّد عيلون عشرات الحكايات السعيدة، على صعيد الأدب والفلسفة والعلوم، وعلى صعيد المال والأعمال بصفة خاصة؛ وثمة، أيضاً وأساساً، عشرات الحكايات التعيسة التي بدأت تتكاثر مع تصاعد الخطاب المعادي للسامية، والذي بلغ ذروته عند أدولف هتلر والرايخ الثالث. القارىء ذو الضمير الحيّ، أي ذاك الذي أفلح في التحرّر من أيّ وكلّ خلط بين العداء للسامية والعداء للصهيونية، لا يملك سوى التعاطف مع المآلات المأساوية التي انتهى إليها اليهود. غير أنّ القارئ ذاته لا يملك صرف المقارنات بين ما عانته هذه الضحية في عقود الجمر والحريق والهولوكوست، وما مارسه بعدئذ ــ ويمارسه على الدوام ــ أبناؤها وأحفادها، ولكن في فلسطين المحتلة اليوم.
قد يساجل رأي بأنّ المقارنة صارت مكررة معادة، ولكن أهي حقاً معادة أكثر ممّا يُعاد من تفاصيل الرواية اليهودية عن الضحية الكونية الأوحد؟ وكيف أنها حين «تضطرّ» إلى ممارسة العنف، أي أن تتخلى عن مكانتها السامية كضحية مقدّسة، فإنّ الفلسطيني وحده هو المسؤول عن «تدهور» قِيَمها وأخلاقياتها وصورتها؟ ثمة «سياسة ذاكرة» عند الفلسطيني أيضاً، وثمة جَدْوَلة مشروعة لهذه السياسة حسب أطوار انقلاب الضحية إلى سفّاح، وسجين النازية إلى سجّان نازي، وقاطن الـ»غيتو» إلى مستوطن عنصري، وعابر البوّابات المخصصة لليهود إلى صانع حواجز مخصصة للفلسطينيين…
والسرديات لا تُعدّ ولا تُحصى، هناك كما هنا، والتاريخ شاهد إثبات.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية