«ضم» كلمة أصبح بالإمكان اعتمادها أكثر من أي وقت مضى، للحديث عن ضم الأراضي طبعا، وأيضا للحديث عن ضم من نوع آخر، لن يغوص موضوع اليوم في الواقع الأوكراني، أكثر الوقائع تصدرا لمشاهد «الضم» حاليا، وإنما سيصب في خانة أخرى، لا تقل رسوخا في عملية الضم ذاتها، لكن على ارتباط بالسياسة الداخلية الفرنسية، إنه ضم اليسار الراديكالي الفرنسي لليسار التقليدي في سابقة لم يعهد لها مثيل، في ما يمكن اعتباره ثورة سياسية نظرية.
أكيد، إنه انتصار نظري لأقصى اليسار على اليسار التاريخي، نظري ليس لأن اليسار الراديكالي ليس له تاريخ، بل لأن تاريخ هذا الأخير بقي في أدبيات السياسة الفرنسية تاريخا هامشيا، لكونه مؤسسا على بنيات نظرية راديكالية بالطبيعة أيضا، فإلغاء الطبقة العمالية للوصول إلى مجتمع لا طبقي يحقق سيطرة العمل على رأس المال، وليس العكس، طرح ماركسي لا ينسجم مع هياكل الجمهورية الخامسة، التي لا تكرس السلطة التنفيذية في أيدي أصحاب السلطة، وفق هذا الطرح، أي العمال في وجه أرباب العمل.
من هنا، ينطلق الخلاف بين اليسار التقليدي واليسار الراديكالي، وأصله اقتصادي لكنه يمتد حتما إلى النطاقات الأساسية الأخرى، التي تدور حول تصور معين لدور الدولة، فقلائل هم الذين دققوا في تصور أدبيات أقصى اليسار لدور الدولة… ولو كنا فعلنا ذلك، لتبدى لنا أنها ترفض مفهوم الدولة نفسه. لكن حصل الاتفاق ووقع الضم، لكن في أي اتجاه؟ بكل تأكيد، حقق جان لوك ميلانشون «ضربة معلم» حين جسد سابقة وقوع زعيم يساري راديكالي فرنسي، وراء استراتيجية الائتلاف الانتخابي المعروفة في فرنسا باسم «وحدة اليسار» فهذه الاستراتيجية ظلت دائما وأبدا تحت قيادة اليسار الاشتراكي، بعد أن سجلت منعطفا تاريخيا معروفا امتد من سنة 1972 إلى سنة 1977 مكرسا رأب صدع بين الاشتراكية والشيوعية الفرنسيتين، لم يسبق له مثيل منذ القطيعة بين التوجهين التي أرخ لها مؤتمر «تور» سنة 1920. ظل فرانسوا ميتران إذن صانع وحدة اليسار، عن طريق ما سمي بالـ»برنامج المشترك» الذي أوصل القوى الاشتراكية الفرنسية الرئيسية إلى مشاركة حكم ميتران خلال فترة ولايته، خاصة الأولى. منذئذ، صارت العملية تتكرر بانتظام. ومن بين أكثر صورها لفتا، مساعدة حزب الخضر على فرض نفسه داخل المعترك السياسي الفرنسي منذ الدفعة التي أعطاه إياها وصول فرانسوا أولاند إلى الحكم سنة 2012. في سياق انتخاب إيمانويل ماكرون سنة 2017، باتت وحدة اليسار الفرنسي معلقة بمواقف «فرنسا العصية» حزب اليسار الراديكالي الفرنسي، الذي صار يماثل أقصى اليمين وزنا، وهذا جديد.
مشكلة اليسار الراديكالي الفرنسي أنه لا يملك استراتيجية دولة، وبالتالي لا يملك استراتيجية حكم لأن قاعدته الأيديولوجية المعارضة ليست مهيأة لذلك
لكن هناك من يرى أيضا في «ضربة المعلم» ضربة قاضية على اليسار الفرنسي التاريخي، وفي هذا الاتفاق، مجرد اتفاق انتخابي وليس واجهة جدية لليسار الجديد.. وهناك فعلا مبررات للتساؤل عن مدى صلابة ملامح يسار فرنسي جديد، فالمواضيع الخلافية جمة، أكانت متعلقة بالعلمانية، أو بالبيئة، أو بطبيعة الحال، بسن التقاعد (وبالتالي، بطريقة تمويل التقاعد).
مشكلة اليسار الراديكالي الفرنسي أنه لا يملك استراتيجية دولة، وبالتالي لا يملك استراتيجية حكم لأن قاعدته الأيديولوجية المعارضة ليست مهيأة لذلك. لا يتوقع المراقبون أن يفوز اليسار الراديكالي بالأغلبية في الانتخابات التشريعية الفرنسية المقبلة، أساسا لأن الأيديولوجيا المعارضة «التظاهرية» لا تقوم مقام استراتيجية بديلة لأنها ليست معارضة حكومية. وميلانشون أكثر من يعلم ذلك، فهو من أقطاب الاشتراكية الفرنسية تاريخيا، شغل عدة مناصب منتسبا إليها. عندها، في حال فوز تشكيلته الجديدة (الوحدة الديمقراطية والشعبية) بالأغلبية، وهو سيناريو مستبعد، سيضطر حتما إلى تنازلات لن يتغير على أساسها وجه اليسار التقليدي.
فلن يظهر الضام إلا على شكل المضموم.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي