«صرتُ أكره السماء الزرقاء، والآن أفضّل السماء الرمادية. الطائرات المسيّرة لا تحلّق حين تكون السماء رمادية»؛ قال الفتى الباكستاني زبير، خلال جلسة استماع أمام أعضاء في الكونغرس الأمريكي، تشرين الأول (أكتوبر) 2013، أيام إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما. قبل ذلك، كان اليمن مسرحاً لعمليات الاغتيال الفردية بواسطة المسيرات؛ وأوّل الضحايا، ربما لأنه أشهرهم، كان أنور العولقي وابنه عبد الرحمن (16 سنة)، وكلاهما يحمل الجنسية الأمريكية.
والباحثة الأمريكية مها هلال، مؤلفة الكتاب الرائد «بريء حتى يُثبت أنه مسلم: الإسلاموفوبيا، الحرب على الإرهاب، وتجربة المسلم منذ 11/9»، لا تقتبس هذه الواقعة على سبيل إدانة الطرائق غير المشروعة لممارسة ما سُميت بـ«الحملة على الإرهاب»، فحسب؛ بل كذلك كي تربط بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة وما سيشهده اليمن من كوارث سياسية وإنسانية متعاقبة، ابتداء من تلك المرحلة وحتى الساعة. أي، للتوضيح ذي الدلالة، مع إدارة جو بايدن ذاته الذي بدأ عهده بوقف دعم العمليات العسكرية السعودية في اليمن؛ وسارع إلى تعيين تيموثي لندركينغ، نائب مساعد وزير الخارجية الأسبق لشؤون الخليج العربي، مبعوثاً أمريكياً خاصاً إلى اليمن.
قبل ذلك، كان النفوذ الأمني الأمريكي في اليمن، أيام نظام علي عبد الله صالح، قد بلغ مستوى من التدخل المباشر والصلافة دفع صحيفة «المؤتمر»، الناطقة باسم الحزب الحاكم ذاته، إلى اتهام السفير الأمريكي في صنعاء (إدموند ج. هَلْ، يومذاك) بأنه «يتصرّف مثل مندوب سامٍ لبلده وليس كسفير لدولة أجنبية، وآن الأوان لكي يدرك أنّ اليمن بلد مستقلّ ذو سيادة». المؤشر الأهمّ في هذا الصدد وقع أواخر العام 2003، حين تمت تصفية ستة مواطنين يمنيين كانوا يسافرون على طريق صحراوي شرق العاصمة صنعاء، اشتبهت واشنطن بأنهم كانوا يشغلون مواقع قيادية في منظمة «القاعدة». ولقد تأكد، بعد ذلك، أنّ ما حدث كان في الواقع عملية اغتيال منظمة نفّذتها القوّات الأمريكية الخاصة عن طريق قصف السيارة بطائرة مسيّرة؛ وتردد أيضاً، وعلى نطاق واسع، أنّ السفير الأمريكي كان قد زار منطقة الحادث قبل ثلاثة أيام، وتوفّر مَن اتهمه بالإعداد اللوجستيّ والإلكتروني الذي سمح بتوجيه الطائرة من الأرض.
هذا التراث الأمريكي لا يعني البتة أنّ البلد لم يكن، وليست حاله اليوم أيضاَ، ضحية صراعاته الداخلية التي تراكمت عبر عقود طويلة، وامتزجت فيها شهوة السلطة مع جشع أمراء الحرب؛ من دون أن تغيب نزاعات إيديولوجية بدت أقرب إلى الاصطناع والتقليد والانفكاك عن الواقع، منها إلى أيّ تمايزات عقائدية حقّة أو حقيقية ذات صلة بواقع يمني، شمالي وجنوبي على حدّ سواء، شديد التعقيد وأبعد ما يكون عن الوصفات الجاهزة المبتسرة.
ولا يعني، على قدم المساواة، تبرئة القوى الإقليمية من تسعير حروب اليمن عبر منافذ شتى صُنّفت في باب المصالح العليا لهذا الطرف الفاعل أو ذاك، ولكنها في أوّل المطاف وآخره لا تخرج عن مطامع النفوذ والسيطرة والاستغلال، وهي حال التورّط الإيراني ونظيريه السعودي والإماراتي؛ خاصة حين تنتقل معادلات التقاسم من حال إلى حال، فيتواطأ طرف مع طرف، أو يتناقض هذا مع ذاك.
وهذا لأنّ المخارج لم تعد مقتصرة على مواجهة الحوثي، بل تشعبت إلى كسور متعاقبة في قلب منظومة التدخل العسكري السعودي، وشروخ متفاقمة بين الرياض وأبو ظبي حول خيارات الجنوب واستثمار موانئه والموقف من «الحكومة الشرعية» ولجم أو إسناد ما يُسمى بـ«المجلس الانتقالي»، وحرج واشنطن ولندن ورهط مصدّري الأسلحة إلى الرياض في ضوء تفاقم الفظاعات الإنسانية في اليمن…
ذلك يُبقي اليمن محتشدا بما هبّ ودبّ من صراعات وتناحرات، التي لا تحول مع ذلك دون عقد المساومات وترتيب الصفقات؛ وهذه حال تجعل أرضه دامية قانية، وسماءه أشدّ زرقة مما يخشى الفتى زبير!