اليوم = 32 ساعة

البصرة مدينة البساتين والأنهر؛ بويب والعشّار وشطّ العرب وباب سليمان وباب الدنيا… يدفع كلّ نهر أمواهه المتموّجة بصورة متتابعة ومتلاحقة، وغابات النخيل تبدو برّاقة كأنها طُليت بطبقة من دهان لامع. كلّ شيء يدلّ على السلام والسعادة، لولا ذلك الخطّ الداكن والقاتم والمخيف الذي يلوح في الأفق، ولا يمكن تبيّن معالمه، لكنك تستطيع التقدير أنه يمثّل أماكن وجود القوّات الإيرانيّة المندفعة باتجاه المدينة. إنه عام 1987 والربيع على الأبواب، ودارت معركة أُطلقَ عليها في أدبيّات حرب الحكومة العراقيّة السابقة (الحصاد الأكبر).
سببُ هذه التسمية أن فرقا كاملة من الجيش كانت تدخل المعركة في الصباح، ولا يخرج منها جنديّ سالم عند وقت الغروب. أمواج بشريّة هائلة تصطخب وتتعارك وتقتتل بكلّ أنواع السلاح، بما فيها الخناجر والحربات، وتحوّلت بمرور الأيام ساحة المعركة إلى أرض سوداء محروقة بالجثث المتفحمة والرماد. كان الجنود الجرحى يُنقلون إلى مستشفى البصرة العسكري القريب من جبهة القتال، حيث كنت أعمل جنديأ طبيبا، ويحمل هذا المشفى من بين المراكز الطبيّة العسكريّة تصنيف «أ»، ومعنى هذا أنها مجهزّة بالعدّة الطبيّة كي تعمل بكلّ طاقة منتسبيها لمدة 24 ساعة متواصلة دون انقطاع.
سماءُ المدينة ليس فيها طائرٌ يطير، وكلّ شيء فيها يبدو ميتا مقفرا. هناك في كلّ متر مربع من خطّ القتال الذي يمتدّ حوالي مئة كيلومتر، أكثر من عشرة جنود فارقوا الحياة، وعشرة يحتضرون من شدّة الجراح في كلّ ساعة من أيام المعركة. إن الأمور إما أن تُنجزُ في وقتها وعلى وجه صحيح وإما أن لا تُنجز. اجتمع بنا مدير قسم الجراحة في المشفى وأبلغنا قراره الشجاع بتقسيم وجبات العمل إلى ثلاث وجبات في اليوم، تستغرق الواحدة ثماني ساعات، تتلوها ثماني ساعات راحة، ثم عمل، ثم راحة، أي أن يومنا صار يتكوّن من 32 ساعة بدلا من 24 ساعة، والسبب هو كثرة طوابير الجرحى ذوي الوجوه الممصوصة الشاحبة والمضرّجة بالدم، امتلأت بهم الردهات في المشفى، وكذلك الساحات والحدائق، وهو مشهد يُثير الرعدة في النفس والجسد. الجريح إنسان نصف ميت نصف حيّ، ويلتصق النصفان بواسطة صمغ مكوّن من عقاقير طبيّة، وينتظر العالم أجمع، ومعه السماء، من الطبيب أن يقوم بإتمام عمليّة التلصيق إلى النهاية. لكن كلّ شيء في دورة حياتك يختلف عندما يتكوّن يومك من 32 ساعة.
المكابدة الأولى التي واجهتنا هي أن أوقات النوم واليقظة وتناول الطعام تاهت بين الظلام والضياء، حسب هذا التقسيم، وكأمر طبيعي صارت الساعة المعلّقة على الجدار لا معنى لها، كما أن ساعتك البدنيّة (البايولوجيّة) راحت تعمل وفق أسلوب جديد، وكذلك آليّة نومك، وبالتالي طريقة تفكيرك. ها أنت تسير بين صفوف الجرحى، وتلاحظ أنهم يتشابهون جميعا فيبدون شخصا واحدا يطلب المساعدة. ما أكثر الصياح وترديد الآهات بينهم، وليس هناك نقطة في آخر السطر! وتكتشف آثار عذاب عميقة في محيّا جندي ساكت والوجوم مهيمن على وجهه. إن شدّة وخطورة إصابة الجندي تتناسب عكسيّا مع نبرة أنينه. كلّما تصاعدت الأولى انخفضت الثانية، إلى أن تختفي، وهذا دلالة على أن الجنديّ الجريح يحتضر، فتمتدّ يدُ المساعدة إليه أولا.

سماءُ المدينة ليس فيها طائرٌ يطير، وكلّ شيء فيها يبدو ميتا مقفرا. هناك في كلّ متر مربع من خطّ القتال الذي يمتدّ حوالي مئة كيلومتر، أكثر من عشرة جنود فارقوا الحياة، وعشرة يحتضرون من شدّة الجراح في كلّ ساعة من أيام المعركة.

بانتومايم

من مزايا يومك الجديد أنك ترى تدرّجات لونيّة غريبة، كأنك نزلتَ على سطح كوكب آخر اختلفت فيه السماء والأرض، وليس كلّ سارد جيّد رسّاما رديئا. ما أبغيه هنا هو أن أنقل الحياة في صالة العمليّات عبر الألوان، لأني عشتُ فيها زمنا طويلا، وبإمكاني الجزمَ أن ليس ثمة يقظة يشعر بها المرء مثلما في هذا المكان. إنها عبارة عن غرفة واسعة معزولة بجدران سميكة ونوافذ إن وجدت فهي بزجاج مزدوج غير شفاف يُعلن عن نهار رماديّ ذابل، وفي الليل هناك عتمة حادّة وظلام رطب وكامد. أرض الصالة وجدرانها والسقف ترتجّ طوال الوقت بفعل قصف المدفعيّة، التي تعمل ليل نهار. بسبب قرب المسافة بين الجيشين المتحاربين، العراقي والإيراني، لا يمكن التفريق بين هدير مدفعيّتنا، وتلك التابعة للجيش الآخر. ثمة مرجل يغلي باستمرار، كأن الجحيم فتح فاه ويقوم بازدراد الساكنين في هذه الأرض، العراقيين والإيرانيين على حدّ سواء.
هنالك دم مسفوح على طول خطّ طريق العربة التي تنقل الجنديّ الجريح من الردهة إلى داخل الصالة، لكنه دم غير نظيف وملوّث بالغبار والوحل الذي جاء به الجندي من المعركة، يظهر إلى العين أقرب إلى اللون الرمادي في النهار، والرمادي الفضّي في الليل، ولا يشبه النجيع الذي يلطّخ الجندي حين يُجرّد من ثيابه، ويصبغ موضع الإصابة بلون أسود مع برتقاليّ باهت في الحوافّ وله ملمس، فهو أشبه بعمل نحتيّ ناتئ (ريليف). ثم نُقل الجريحُ من عربة النقل إلى سرير صالة العمليّات الحديدي، الثابت تماما في مكانه، والمجهّز بنوابض تعمل بقوّة الهايدروليك ترفعه وتخفضه وتُميله إلى الجهات الأربع. بعد أخذِ الجنديّ جرعة التخدير، تمّ شطف وتطهير العضو المصاب وفُرشت الملاءات الخضراء في كلّ مكان. أُشعلت الأضواء الكاشفة في سقف الصالة، وتمّ توجيهها من قبل عامل الإنارة. ثوانٍ ويبدأ العرض المسرحيّ، المشهد الأول يتطلّبُ جهدا استثنائيّا من الممثل الأول، أي الجرّاح، ويُدعى هذا بالإنكليزيّة:
“knife over the skin”
أي «المبضع صار على الجلد». في التأليف الأدبي يكون للخيال اليد الطولى، وهكذا شاهدتُ في ذلك اليوم البعيد السرير مثل خشبة مسرح. والممثلون وهم الجرّاح والمخدّر والمساعدون الأربعة، سوف يقومون بأداء مسرحيّ ينبغي أن يكون ناجحا للنظّارة، وهؤلاء ليسوا سوى الجنديّ الجريح نفسه. ولأن العمل يجري دون كلام غالبا، فهو نوع من البانتومايم (التمثيل الصامت) تتفرّج عليه روح الجندي طالما كان جسده مشلولا وفاقد الوعي بواسطة البنج. يقول باسكال: «لا يوجد شيء بسيط يُقدّم للروح، والروح لا تقدّم نفسها أبدا لأي شيء ببساطة». إن أرواح الممثلين تعمل في المسرح، فهم ملائكة الرحمة مثلما يُقال، تتابعهم روحٌ وحيدة، تنظر وتشمّ وتفكّر، وتجوع وتضمأ. النزيفُ الحاصل من إصابات الرأس والصدر والأطراف يكون نظيفا عادة، لونه أحمر قان ومتوهجٌ وسعيد، وله شميمٌ قويّ لا يضيع وسط روائح أدوية التخدير الغازيّة والسائلة والمعقّمات. شظيّة تمزّق البطن، أو رصاصة أو مقذوف ناريّ آخر يجعل الألوان هنا ممتزجة مع أحشاء المعدة والمعي والقنوات الصفراوية، ورائحة فاسدة ومتعفنة وكريهة تلوّث الهواء من هذه الأخلاط، مع ما يتبخر من الفوط والملاءات الدامية. أيّ جحيم سرياليّ على روح الجنديّ الرهيفة، العيش فيه لساعات قد تطول وتصل سبع ساعات أو أكثر، يحتاج الجسد المسجى خلالها إلى أمصال ودماء ومحاليل طبيّة وأدوية باستمرار، وربما تبدّل ما تضمّه عروقه من سائل أحمر ثلاث أو أربع مرّات، في كلّ واحدة يتغيّر لون وجهه فيها، وكذلك أحشائه.
انتهت وجبة العمل وغادر الممثلون إلى مخادعهم طلبا للأكل والراحة. كانت الألوانُ وأصوات تنقّل المسرحيّين وحركات أيديهم – وأنا أحدهم – تصلني في أثناء رقادي. ولأن الوقت ربيع، فالسماء تضيق في الحلم حينا تحت ستار المطر الغزير الهاطل، وتتّسع حينا بجلال الإشعاع الذي تعكسه الشمس. بين رائحة الدماء التي جئتُ منها توّا، وشميم طلع النخيل في البساتين القريبة، يكون حالي أقرب إلى الهذيان أو الحمّى. ثم تستيقظ بعد ذلك، ولا تعرف كم الساعة، وهل الدنيا نهار أو ليل، وخلال تناولك الطعام تنظر إلى السماء كأنك مسافر في طائرة تدور الأرض حوله فيختلف الزمان تبعا للمكان الذي تقطعه في أثناء الرحلة، وسبب هذا أن يومك صار 32 ساعة.
إصاباتُ الحربِ عادةً تكون خطرةً جدا، واحتمال موت الجنديّ كبيرٌ، فكيف يتلقّى الممثلون هذا الحدث الجلل، ثم يواصلون عملهم بعد ذلك وكأن شيئا لم يكن؟ للجواب على هذا السؤال أنتقل بالقارئ إلى مشهد غير بعيد، ربما ضمّنتُهُ الجواب لأنْه يصعب عليّ قوله بصورة مباشرة: في رواية «الحرب والسلام» يزور الأمير أندريه أباه قبل أن يتوجّه إلى الحرب، وقامت أخته الأميرة ماري بتوديعه عند الباب بعينين دامعتين، ثم رسمت إشارة الصليب. كان أبوه العجوز متأثّرا للغاية لأن احتمال موت ابنه في الحرب كبير. لا أعرف سبب اختيار تولستوي إلى ردّة فعل الأب في هذا الموقف بهذه الصورة: «ارتفع في الأثناء صوت من مكتب أبيه العجوز الغاضب يشبه طلقة الغدّارة، ينبئ بأن العجوز المنفعل كان يتنخّم في منديله. وما كاد الأمير أندريه يغادر باب المكتب ويبتعد عنه، حتى وورب الباب، وظهر الأمير العجوز بقامته الصارمة وهو في معطفه المنزلي الأبيض وقال: – هل ذهبتَ؟ هيّا، ذلك أفضل!».
أختتم المقال بهذا التساؤل مع نفسي: لماذا اخترتُ هذا المشهد، مع ما فيه من فظاظة، لشرح الحالة التي يكون فيها الممثلون، عندما يكونون موقنين أن الجنديّ الجريح فاضت روحه وابتعدت؟ لقد فعلوا كلّ ما في وسعهم في سبيل إنجاح فصول المأساة التي تدرّبوا عليها كثيرا. إنهم واقفون في أماكنهم، ولا يحقّ لهم مغادرة صالة العمليّات، ينتظرون أن يبدأوا عرضا جديدا ومختلفا. الجرّاحُ ـ الذي هو أنا، وربما كنتُ المخدّر أو أحد المساعدين أو العامل المسؤول عن التنظيف ـ وجد نفسه هادئا في الأخير بشكل غريب. كان ينظر جانبا، بعينين تبدوان تنتظران حدثا لن يقع مطلقا.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية