يسجل عام 1929 صدور كتاب «امرأتنا في الشريعة والمجتمع « للمفكر والمناضل السياسي التونسي الطاهر الحداد. بكل تأكيد، شكّل الكتاب في زمانه نقلة نوعية في النظرة إلى المرأة، سواء أكانت نظرة فلسفية ـ نفسية، أو سياسية أو اقتصادية.
فلسفية عندما ينعت الحداد المرأة بـ»أم الإنسان» ويتناول الإنسان كمفهوم يرقى بمقياس التحليل إلى مستوى أكثر تجريدا من المقارنة التقليدية بين المرأة والرجل (وإن لم يلغها). ثم حديث المفكر عن «طابع المرأة» (وهو – أي الإنسان- لا يعي غير طابعها الذي يبرز في حياته من بعد) ليس هو الآخر بريئا، فالتوقف عند الطابع الأنثوي للإنسانية، يذكر بما في كل بشر من عاطفة وحس مرهفين.
أما حين يصف الحداد المرأة بـ»من يشبع» كـ»زوج أليف» جوع «نفس» الإنسان، قد تبدو العبارة غريبة، لأول وهلة، لقارئ من زماننا المعاصر، لكن اعتماد الحداد على تعبيره «إشباع جوع النفس هذا» دليل على نية الكاتب ترقية المرأة إلى الشطر الذي لا يكتمل المرء بدونه، شطر من النفس البشرية، تلك التي وصفها غاستون باشلار في مصنفه «الماء والأحلام» بالمتكونة من روحين أنثوية وذكورية.
هنا تجديد حداثي واضح يدخله الحداد في الكلام عن المرأة، هي التي حسبه تكون «نصف الإنسان نوعا وعددا» نوعا، لأنه لا جنس من دون نوع، وفقا لما جعله الحداد عنوانا لكلامه الفلسفي: الجنس البشري مؤلف عضويا من النوع الأنثوي والذكوري، وبالتالي عددا، فتعدد البشر من حيث الكثرة غير منفصل عن تقاسم كل فرد صفات الذكورية والأنوثة. الحديث عن المرأة كمكون عضوي للإنسانية، يجعلها كائنا اجتماعيا، يتنزل أيضا وأساسا في تصور سياسي، فالمرأة، فضلا عن كونها شطرا للإنسان «شطر الأمة” كذلك (الأمة بمفهومها السياسي العام هنا).
ولا يمكن للمرأة، حتى إن ألح البعض على ترويج العكس، أن تكون على قدم مساواة مع الرجل نفسه، كـ»قوة في الإنتاج».. إنتاج سنجد هذه الكلمة في كتاب الحداد أكثر من مرة، وبها أدخلنا، هو الذي ناضل كنقابي طويلا، في معالجة اقتصادية جذرية لقضية المرأة، مثلا عندما تناول اختلاف الأوروبيين أنفسهم في الإقرار بـ»تقدم المرأة مع الرجل في الإنتاج المادي» (التقدم معا خطوات إلى الأمام يحمل في ثناياه التقدم كمفهوم). وفي معرض حديثه عن حماس «أنصار المرأة» الذين يجدون في «هذا النجاح في الشعب بعثا وانطلاقة جديدة، يسمح به تحول المرأة إلى عضو فاعل في الإنتاج، يعكس الحداد حماسه الشخصي أيضا فينبغي، على حد قوله، أن لا يعتبر هذا النجاح في الشعب، أي نجاح إقرار وجود المرأة إلى جانب الرجل في خدمة الإنتاج وبالتالي الازدهار، إلا قوة جديدة فيه، وتوفيرا لإنتاجه المادي والمعنوي». بوضوح، يتحدث الحداد بلغة المناضل النقابي الذي طبع فصول مسيرته، نظرا وفكرا وعملا وداعية للإصلاح. هكذا وجبت قراءة نقده للنظرة السائدة للمرأة «غير أننا قد اعتدنا في نظرنا للمرأة أن نراها منفصلة عن الرجل، وأحرى أن لا يكون لها شيء من ذلك في نهوضه الشعبي أو سقوطه».
الطاهر الحداد يؤيد تسنم المرأة أعلى المراتب، وما الأحداث التي تعيشها تونس حاليا سوى دلالة على إمكان تحقيق مثل هذا المبتغى
في هذا النص، الذي يمكن اعتباره نصا من أجل امرأة عربية، وغير عربية حديثة، ترتبط صفة المناضل النقابي عضويا، بصفة المناضل السياسي. وهنا يذهب الحداد بعيدا: فإن كان يقر اختلافا بين الأوروبيين المنقسمين بين فريقين، فريق «تقدم المرأة الى سيادة الدولة» من السهل قراءة ما بين السطور لمعرفة أنه ينتمي إلى فريق المناصرين، الذين يؤيدون تسنم المرأة أعلى المراتب، وما الأحداث التي تعيشها تونس حاليا سوى دلالة على إمكان تحقيق مثل هذا المبتغى.
ولم يفت الحداد إذن، في قلب حديثه عن المرأة كـ»أم للإنسان» أن يتناول المرأة … كامرأة. أعني بمقومات الأنوثة ومميزاتها، لكن ليرقيها إلى مقومات ومميزات تعلو على المرأة كشخص، فتشكل منظومة قيم مضافة ينتفع منها الإنسان نساء ورجالا. كان الحداد سباقا ومنذرا وصاحب رؤية.. وتأتي طروحاته لتذكر بأن الكرامة والتقدم مكسبان لا يمكن التسليم بهما أبدا، وهو ما تعلمه لنا تطورات شؤون الساعة جيدا.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي