تزداد الأوضاع السياسية والمجتمعية صعوبة في ألمانيا. فحالة عدم الاستقرار التي يمر بها الائتلاف الحاكم المكون من الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر تحد كثيرا من كفاءة السياسة، وانكماش الاقتصاد الألماني في 2023 للمرة الأولى ومنذ عقود طويلة يقلق شعبا اعتاد على الرخاء والوفرة، وتعاظم معضلات الهجرة غير الشرعية يدفع الناخبات والناخبين إلى الاختبارات الحادة في اتجاه أقصى اليمين وأقصى اليسار.
وهذا تحديدا هو ما حدث في الانتخابات التشريعية التي أجريت الأحد الماضي على مستوى ولايتين شرقيتين صار بإحداهما حزب اليمين المتطرف، البديل لألمانيا، القوة البرلمانية الأكبر وحل بالأخرى في المركز الثاني بفارق مقعد برلماني واحد عن الحزب المسيحي الديمقراطي الذي فاز في الانتخابات. ففي ولاية تيرنجن، حصل حزب البديل لألمانيا على 32 من مقاعد البرلمان المكون إجمالا من 88 مقعدا وبفارق 9 مقاعد عن الحزب المسيحي الديمقراطي الذي جاء في المركز الثاني. توزعت بقية المقاعد بين حزب اليسار الجديد «تحالف سارة فاجنكنشت» (15) وحزب اليسار (12) والحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي خسر الانتخابات بوضوح (6 مقاعد فقط). أما في ولاية ساكسونيا والتي يبلغ عدد مقاعد برلمانها 120، فقد حصد المسيحي الديمقراطي 42 مقعدا وتلاه مباشرة حزب البديل لألمانيا بـ41 من مقاعد البرلمان. وتوزعت بقية المقاعد بين حزب اليسار الجديد بزعامة السياسية الشعبوية سارة فاجنكنشت (15) والحزب الاشتراكي الديمقراطي (9) وحزب الخضر وحزب اليسار (6 لكل منهما) ومقعد وحيد للناخبين الأحرار.
وبسبب نتائج الانتخابات التشريعية في ولايتي تيرنجن وساكسونيا، ستواجه السياسة الألمانية وللمرة الأولى تحديا خطيرا يتمثل في الكيفية التي يمكن بها حكم الولايتين دون تمكين اليمين المتطرف من المشاركة في الحكومة وذلك هو الموقف المعلن لأحزاب المسيحي الديمقراطي والاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر. ويزيد من تعقيدات الأوضاع في الولايتين الشرقيتين، وهي أوضاع مرشحة للتكرر في ولايات أخرى، الحضور القوي الذي سجله حزب اليسار الجديد بزعامة فاجنكنشت التي يرفض اليمين المحافظ مجسدا في الحزب المسيحي الديمقراطي التحالف معه:
وبنتائج انتخابات الولايتين، يقترب مشهد اليمين المتطرف في ألمانيا من المشهد الذي كان عليه قبل سنوات في بلدان أوروبية مثل النمسا وإيطاليا والسويد والدنمارك والتي صارت اليوم إما مع حكومات يقودها اليمين المتطرف أو يشارك بها أو يضمن لها الاستمرار كحكومات أقلية في النظم البرلمانية.
ويصبح السؤال الجوهري المطروح على أحزاب يمين ويسار الوسط كالمسيحي الديمقراطي والاشتراكي الديمقراطي وعلى مجمل القوى السياسية في ألمانيا هو كيف يمكن تفادي وصول قوى اليمين المتطرف إلى مقاعد الحكم في بلد دمر بها اليمين المتطرف من قبل الديمقراطية وحكم القانون وأغرق العالم في حرب مجنونة وكارثية وارتكب جرائم إبادة مفزعة وحمل بها المجتمع ذنبا تاريخيا لم يتخلص منه بعد.
والحقيقة أن لصعود اليمين المتطرف في ألمانيا العديد من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي لا تختلف عن أسباب الصعود في بقية البلدان الأوروبية. فمن التداعيات السلبية لتراجع معدلات النمو الاقتصادي والمتمثلة في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، مرورا بأزمات المهاجرين واللاجئين الذين دوما ما يستخدمهم اليمين المتطرف كوقود لمقولاته العنصرية وادعاءات الحفاظ على هويات وطنية «نقية» واستعادة الأمن على خلفية تكرر العمليات الإرهابية التي يرتكبها مهاجرون، وصولا إلى فضائح الفساد التي تلاحق مسؤولين حكوميين وسياسيين وعدم الرضاء الشعبي عن الدور الكبير الذي صار للاتحاد الأوروبي ومجالسه المختلفة في حياة الألمان؛ على خلفية كل ذلك يصعد اليمين المتطرف ممثلا في حزب البديل لألمانيا.
ويضغط اليمين المتطرف على الحياة السياسية الألمانية بمقولات شعبوية في الاقتصاد جوهرها الابتعاد عن الاتحاد الأوروبي وإقرار سياسات حمائية، وبخطاب عنصري في السياسة يرفض الهجرة واللجوء حتى وإن كان سوق العمل الألماني في أمس احتياج للأجانب (يحتاج سوق العمل الألماني إلى مليون أجنبي في العام لسد عجز الأيدي العاملة في أغلب القطاعات الاقتصادية والخدمية) ودعاية احتجاجية متشددة تزعم خطر الأجانب (خاصة العرب والمسلمين) على الهوية الوطنية الألمانية. والكارثي في الأمر أن اليسار الجديد الذي تتزعمه الشعبوية سارة فاجنكنشت يتبنى ذات الأفكار والمقولات، ولا يضيف إليها سوى الرفض الصريح لمواصلة تقديم الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا في الحرب مع روسيا.
غير أن لصعود اليمين المتطرف في ألمانيا خلفيات خطيرة خاصة تتعلق، من جهة أولى، بجاذبية الفكر العنصري لدى دوائر شعبية ليست بالصغيرة في الولايات الشرقية التي انقلبت بعد انهيار الحكم الشيوعي في 1989 على المقولات اليسارية ولم تقترب من مقولات يمين الوسط ويسار الوسط سوى بقدر يسير وانفتحت على خطاب ودعاية اليمين المتطرف على نحو لم يتوقعه كثيرون. ومثلت موجات الهجرة واللجوء المتتالية من موجة الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة في التسعينيات وصولا إلى الموجة السورية في 2015 والموجة الأوكرانية في 2022 القضية الكبرى الممكن استغلالها من قبل اليمين المتطرف (واليسار المتطرف أيضا) للحصول على تأييد الناخبين وتحريك الاحتجاجات في الشوارع.
يظل اليسار هو مناط الأمل في مواجهة اليمين المتطرف وتظل رؤاه التقدمية هي مفتاح استعادة التوازن للحياة السياسية في ألمانيا
من جهة ثانية، لا يمكن الفصل بين الصعود السياسي لليمين المتطرف في ألمانيا وبين أعمال العنف العنصري التي تزايدت في الولايات الشرقية خلال السنوات الماضية وأسقطت ضحاياها من المهاجرين واللاجئين والأجانب. لا يعرف الكثيرون داخل وخارج ألمانيا حقيقة أن المحاكم الألمانية تنظر إلى اليوم في اتهامات جنائية ضد منتسبين إلى مجموعات نازية جديدة وشبكات إرهابية متطرفة تورطت في قتل مهاجرين ولاجئين ومواطنين من أصول أجنبية. فوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تروج أكثر للعمليات الإرهابية التي يرتكبها مهاجرون ينتسبون إلى الدواعش وعصابات التطرف الأخرى ويتسببون بجرائمهم الشنعاء في مواصلة اليمين المتطرف حملات الكراهية ضد عموم المهاجرين والأجانب.
أما السؤال عن سبل تفادي وصول اليمين المتطرف إلى مقاعد الحكم أو بعبارة أخرى عن استراتيجيات احتواء البديل لألمانيا وأشباهه، فإجابته ترتبط قبل أي شيء آخر بدور اليسار غير المتطرف ممثلا في الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر في الحياة السياسية.
ترتكز أجندة اليمين المتطرف في ألمانيا إلى خطابين للكراهية، كراهية الغريب وكراهية أوروبا. أما كراهية الغريب فتتجه إلى مئات الآلاف من اللاجئين الذين وفدوا ألمانيا خلال السنوات الماضية وملايين المقيمين ذوي الأصول الأجنبية، وتروج بين الناس للخوف منهم على الرخاء الاقتصادي والسلام الاجتماعي والنظام العلماني والهوية الحضارية-الثقافية في ألمانيا. من جهة أخرى، ترتبط كراهية أوروبا بالترويج لرفض السياسات الاقتصادية والمالية والقانونية للاتحاد الأوروبي التي يرى بها اليمين المتطرف ومعه قطاعات شعبية ليست بالمحدودة ظلما فادحا لألمانيا التي يختزل اليمين المتطرف علاقتها بأوروبا في المساعدات الاقتصادية والمالية للبلدان المأزومة في جنوب القارة، وفي فتح سوق العمل الألماني أمام عمالة رخيصة من وسط وشرق أوروبا على نحو يضر بأجور الألمان، وفي تدخل الاتحاد الأوروبي ومؤسساته الاقتصادية والمالية في قرارات الحكومة الألمانية. ثم يترجم اليمين المتطرف خطابي الكراهية هذين إلى مطالبة مباشرة بترحيل اللاجئين وإغلاق الأبواب أمام المهاجرين، وإلى تبني مقولات الانسحاب من الاتحاد الأوروبي والتوقف عن الإنفاق على عموم أوروبا من حصاد عمل ومدخرات الألمان.
موضوعيا، يتجاهل خطاب الكراهية ضد اللاجئين والمقيمين ذوي الأصول الأجنبية القدرة الاقتصادية والاجتماعية لألمانيا على استيعاب لاجئين لم يقترب عددهم الإجمالي أبدا من الملايين الذين يتوزعون في الشرق الأوسط على بلدان مثل تركيا ولبنان والأردن ومصر لا تمتلك الإمكانيات الاقتصادية والمالية لألمانيا، وينكر كذلك الإسهام الإيجابي لملايين الأجانب الذين يشاركون في صناعة التفوق الألماني ويقدمون نموذجا لألمانيا جديدة متنوعة ومنفتحة على العالم. موضوعيا أيضا يتجاهل خطاب الكراهية ضد أوروبا الاستفادة الاقتصادية والتجارية الكبرى لألمانيا من الاتحاد الأوروبي والتي تدركها بوضوح نخب السياسة ومجتمع الأعمال في ألمانيا مثلما تدرك خطورة انهيار الاتحاد، خاصة بعد ما سبق من خروج بريطانيا من الاتحاد.
أما النتيجة السياسية العريضة فهي خصم صعود اليمين المتطرف على نحو مقلق من اعتدال يمين الوسط في ألمانيا ممثلا في الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب المسيحي الاجتماعي (الشريك الإقليمي للمسيحي الديمقراطي والمقتصر تنظيميا وانتخابيا على ولاية بافاريا الجنوبية) والحزب الديمقراطي الحر. هذه الأحزاب الثلاثة تتحمل العبء السياسي المباشر لصعود اليمين المتطرف. فمن جهة، تحت وطأة خطابات الكراهية ومقولات الخوف على «هوية ألمانيا ودخول مواطنيها الأصليين» التي ينشرها اليمين المتطرف تنحرف الأجندات السياسية ليمين الوسط تدريجيا في اتجاه أكثر تشددا وتخرج من بين صفوفها أصوات تطالب أيضا بترحيل اللاجئين وإغلاق أبواب الهجرة والامتناع عن «الإنفاق» على بلدان أوروبا المأزومة. ومن جهة أخرى، تقف أحزاب يمين الوسط أمام فوهة مدافع اليمين المتطرف الذي يضغط عليها لقبول التحالف معه على مستوى برلمانات وحكومات الولايات مثلما يتحالف اليسار ممثلا في الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر مع أقصى اليسار في بعض الولايات.
وإذا كانت أفكار ومقولات اليمين المتطرف تضغط بشدة على يمين الوسط، فإن أحزاب اليسار تستطيع مواجهتها إن هي لم تستسلم لغواية الشعبوية وحسنت من أدائها الحكومي على مستوى الولايات وعلى المستوى الاتحادي. بالقطع، تبدو الغواية الشعبوية ذات فاعلية انتخابية كبيرة هذه الأيام. فحزب اليسار الجديد «تحالف سارة فاجنكنشت» وفي الانتخابات الأولى التي يشارك بها تجاوز فيما خص عدد المقاعد التي فاز بها الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر في ولايتي تيرنجن وساكسونيا. ويدلل هذا السلوك التصويتي على انجراف بعض القطاعات المهنية والعمالية والمجموعات السكانية محدودة الدخل إلى التصويت الانتخابي لليسار المتطرف مثلما تصوت قطاعات أخرى لليمين المتطرف بعد أن استمرت لعقود طويلة على ولائها للحزب الاشتراكي الديمقراطي ولحزب الخضر.
غير أن اليسار لم يفقد القدرة على حصد تأييد الشباب والعديد من سكان المدن الكوزموبوليتية كالعاصمة برلين والمدن الشمالية هامبورغ وبريمن ومدن الحنوب الغنية كشتوتغارت وفرايبورغ. والسبب في ذلك هو أجندة الاشتراكي الديمقراطي والخضر القاطعة في تقدميتها الرافضة لخطابات الكراهية والمدافعة عن الحقوق والحريات والقيم الإنسانية، وكذلك ليبرالية وبراغماتية الطرح الاقتصادي للحزبين الذي لم يعد به من الرؤى اليسارية التقليدية الشيء الكثير. وعلى الرغم من صعوبة الأوضاع الراهنة في ألمانيا ومن التحول نحو اليمين واليمين المتطرف الذي تدلل عليه نتائج الانتخابات الأخيرة ومن التغيير المتوقع في هوية الائتلاف الحاكم على المستوى الاتحادي في انتخابات خريف 2025 (في اتجاه تشكيل المسيحي الديمقراطي للائتلاف الجديد) يظل اليسار هو مناط الأمل في مواجهة اليمين المتطرف وتظل رؤاه التقدمية هي مفتاح استعادة التوازن للحياة السياسية في ألمانيا.
كاتب من مصر