زادوا مئة مليون خلال خمس سنوات. هم اليوم 814.5 مليون ناخب هندي يتوجهون الى الصناديق في انتخابات جزئت لتسع جولات. هي أضخم انتخابات في تاريخ الحداثة السياسية اذاً، وتشكّل “حدثاً ديموغرافياً” في المقام الأول، لكنها “حدث ماليّ” أيضاً، سواء من جهة حجم الانفاق الحكومي عليها (577 مليون دولار)، أو من جهة نفقات الدعاية الانتخابية المنظورة للمرشحين والتي فاقت خمسة مليارات دولار أمريكي، ليأتي الحدث الانتخابي الهندي في المرتبة الثانية مباشرة بعد الرئاسيات الأمريكية على هذا الصعيد.
هي انتخابات صاخبة وضارية. تنقسم كبرى الشركات وتجمعات رجال الأعمال بين المتبارزين فيها، وتحرص اللوائح على ترصيع نفسها بأسماء من خارج الطبقة السياسية، كنجوم “بوليود” وأخواتها، ولاعبي الكريكيت المشهورين، وملكات الجمال السابقات.
من حيث هي حدث ديموغرافي بامتياز، تبدو الانتخابات “ديمقراطية للفقراء”، ومن حيث الانفاق المالي وانقسام رجال الأعمال بين التحالفين المتواجهين بشكل حيوي ومثير، تبدو أشبه بـ”انتخابات الأغنياء في بلاد الفقراء”. بين الحدّين، ثمة طبقة وسطى متنامية بايقاع سريع، ولو أنّها تعرضت لانتكاسة جراء انهيار سعر صرف الروبية الصيف الماضي.
هذه الطبقة الوسطى التي يرفعها بعض الخبراء الى زهاء الثلاثمئة مليون مواطن هي المرشّحة اليوم لصناعة الفارق بين هذه الانتخابات وسابقاتها، لكن ليس أبداً كما يشتهي الليبراليون النمطيّون الذين ينظرون الى انتشار وتوسّع الطبقة الوسطى على الصعيد العالمي على أنها تؤمن القاعدة الجماهيرية لتوطّد وازدهار الديمقراطية الليبرالية.
فبمعنى ما، البرنامج السياسي الليبرالي النمطي هو ما يتلقّفه “اجتزاء” كل فريق في الانتخابات الهندية اليوم في مواجهة “الاجتزاء” الذي يستند اليه الفريق الآخر. التنازع على التراث الليبرالي يعني في الوقت نفسه شيوعه .. ونهشه!
قياساً بمنافسه “القومي الدينيّ” يبدو “حزب المؤتمر” الى تراث الليبرالية أقرب. يريد بلداً لجميع مواطنيه، بالشكل الذي لا يبقي للوطنية الهندية خياراً آخر غير أن تكون كوزموبوليتية. سواء تبنى الفكر الاشتراكي أو سارع لاحقاً الى اقتصاد السوق، يبقى الاقتران بين التنوير الثقافي وبين التنمية الاقتصادية ثابتة عنده. هو الحزب الذي قاد عملية التحرير الوطني للهند، وهيمن مطولاً على مرحلة ما بعد رحيل المستعمر، لكنه معادلته الارتكازية بقيت “القانون البريطاني من دون المستعمر البريطاني”، وان كان ذلك على حساب تشويه النموذج الفدرالي، حيث قامت الهند على التوفيق بين الديمقراطية البرلمانية البريطانية وبين النسق الفدرالي الأمريكي، في حين جنح “حزب المؤتمر” لفرض مركزية بيروقراطية الهندوستان ومركزها العاصمة نيو دلهي.
“تنويرية” الحزب تختصر في تسمية التحالف “التقدمي” الذي يقوده انتخابياً، مع أننا حيال سلالة حقيقية أو “العائلة الأولى نهرو – غاندي” كما ذاع وصفها، من جواهر لال نهرو (وقبله والده موتيلال رئيس المؤتمر) وابنته انديرا غاندي التي قضت اغتيالاً على يد حارسها من السيخ، الى حفيده راجيف الذي اغتاله متمردون من تاميل ايلام، ثم أرملته الايطالية صونيا، والآن يقود راهول ابن رجيف الحملة نحو ما يرجح المراقبون أنها ستكون الهزيمة المدوية لحزب المؤتمر، الأمر الذي قد يؤدي الى انتقال الكاريزما الزعامية الى شقيقته المحنكة بريانكا زوجة أحد كبار رجال الأعمال. لكن شخصيات هذه العائلة تبقى هندياً هي الأقرب الى تجسيد قيم “الفرد” في الفكر الليبرالي، وقد ترّبت جيلاً بعد جيل على الطريقة الأروستقراطية البريطانية في بلد لم تتمكّن فيه لغة “الهندي” من أن تفرض نفسها كلغة رسمية مركزية للتوحيد القومي، وبقي القول الفصل فيها للانكليزية كلغة التواصل القومي بين الهنود الناطقين بلغات مختلفة، والذي لا تتقن الانكليزية غير أقلية ضئيلة من بينهم.
الراجح أن راهول غاندي و”المؤتمر” يتجهان الى هزيمة مدوية، وأن حزب “بهاراتيا جاناتا” القومي – الديني الهندوسي سيحقق فوزاً يتجاوز بتداعياته وصوله الى الحكم عام 1998، وبمرشح لتولي رئاسة الوزراء هو نارندره مودي المتهم بضلوعه بمجازر ذهب ضحيتها الفي مسلم في الغوجارت عام 2002 والممنوع حتى الساعة من دخول بلدان عديدة في طليعتها الولايات المتحدة.
لكن هذا الحزب الذي يرميه أخصامه بالفاشية، لا سيما، مع قيادي كاريزمي متشدّد وملطخة أيديه بالدماء كمودي، يقتطع هو الآخر بنوداً من البرنامج الليبرالي في مواجهة الخصم. فمن جهة، هو يجمع بين شعبوية تكافلية اجتماعية، وبين اعتناق الليبرالية الاقتصادية والتنديد بالبيروقراطية التي تمنع تحرير السوق، في حين يخوض مودي الانتخابات تحت شعار انهاء حكم العائلة وابتغاء هزيمتها حتى في مسقط رأسها. ومن جهة ثانية، هو يلبّس سياسته المتشددة تجاه ملايين المسلمين من خلال دعوته لاقرار قانون مدني موحد للأحوال الشخصية (وحدها ولاية غووا ذات الماضي البرتغالي تمتلك مثله)، وابطال ما يوصف بالامتيازات “الانكلو – محمدية”، أي أنه يطرح أصوليته الهندوسية تحت شعار “العلمانية الشاملة”. أكثر من ذلك، “الهندوتفا” أي القومية الدينية الهندوسية كما يطرحها، تدعو لاندماج أكبر بين الطبقات الدينية التراتبية (القسط) وبشكل يرفع من حظوظ المنتمين لأصول متواضعة (شأن مودي نفسه)، فاذا كان الحزب يناضل من أجل “هند للهندوس” فانه يعيد تعريف الهندوسية لتمتد الى كل الديانات غير المسلمة في شبه القارة المعاد تعريفها كوطن مقدّس بالمعنى الديني الصافي للكلمة، وحتى المسلمون، يمكن أن تتسع هذه الوطنية الهندوسية الدينية اليهم اذا ما قبلوها. نحن اذا أمام نموذج ثالث للتخليط الاحيائي العضوي بين القومي والديني من بعد الباكستان واسرائيل، وهذا النموذج مرشح للعودة المظفرة انتخابياً اليوم.
‘ كاتب لبناني
وسام سعادة
فال الله ولا فالك ياأستاذ وسام
احنا ناقصين
يعني مايكفي الغرب علينا
يطلع الشرق ايضا علينا
تكالبت علينا الامم ونحن في سبات
ولا حول ولا قوة الا بالله