انتخابات تونس

حجم الخط
4

الانتخابات للبرلمان والرئاسة في تونس والتي تمت خلال شهر تشرين الثاني تشكل تطورا حقيقيا سواء من ناحية السياسة التونسية أو من ناحية دول المنطقة التي عاشت ايضا «الربيع العربي». تونس التي كانت الدولة الاولى لثورة «الربيع العربي» وطردت زين العابدين بن علي من السلطة في بداية 2011، تعتبر حتى الآن الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. وقد اعتبرت تونس منذ سنوات دولة معتدلة، ذات اتجاهات غربية، سكانها مثقفون ويسعى المجتمع التونسي منذ الخمسينيات إلى اعطاء النساء حقوق تُمكنهن من لعب دور حقيقي في المجتمع والسياسة. ورغم أن وجود الانتخابات هو تطور ايجابي. فان العملية السياسية في تونس لم تنته بعد. فما زالت هناك احتمالية لقمع مجموعات متعددة في المجتمع بعد الانتخابات، وايضا خطر تعيين جهات خارجية تابعة للسلطة في جميع مؤسسات الدولة المهمة بعد الفوز في الانتخابات.
الانتخابات للبرلمان والرئاسة هي مرحلة اخرى مهمة وقد تكون الاهم حتى الآن في الجهود التي تبذلها تونس من اجل انشاء بنية سياسية جديدة بعد الثورة. واقامة برلمان جديد هي مأسسة للدستور الجديد لتونس والذي تم تبنيه في كانون الثاني 2014 بعد صراعات كثيرة هددت باضاعة انجازات الثورة. وعلى العكس من مصر وليبيا فان القوى السياسية المتصارعة في تونس – الإسلاميين الممثلين بحركة النهضة، والعلمانيين الذين توحدوا في حزب نداء تونس – اتفقت على النقاط المهمة، والامتناع عن اساءة الوضع السياسي والاتفاق على الدستور الجديد. إلا أن هذه العملية التي بدأت بعد انتخابات المجلس التشريعي في تشرين الاول 2011 ارتبطت بالتوتر والاختلاف في الآراء بين الاطراف المختلفة، الامر الذي أدى بالمفاوضات إلى ازمة في صيف 2013، وكانت الذروة في المظاهرات التي اندلعت ضد الحكومة برئاسة النهضة التي تشكلت في تشرين الاول 2011 وكانت مخولة بصياغة الدستور وبناء عملية انتخابية جديدة في الدولة. والتوقعات العالية للشعب التونسي في أعقاب الثورة لم تتحقق، خاب أمل التونسيين من حزب النهضة حيث لم يتم التغيير المتوقع، بالذات في المجال الاقتصادي، واسقاط الاخوان المسلمين في مصر شجع العلمانيين في تونس على الانتظام من اجل طرد الإسلاميين من السلطة. إلا أنه وعلى الرغم من التقارب الفكري بين النهضة والاخوان المسلمين في مصر، فقد شدد حزب النهضة على مدى السنوات على طرح افكار معتدلة في مسائل مثل دور الدين في الدولة، وأعلن رئيس الحركة رشيد الغنوشي قبل الانتخابات في عام 2011 عن التزامه بالديمقراطية وتعهد بالعمل على تحسين مكانة النساء والحفاظ على الاستقرار السياسي في الدولة. وادعى خصوم النهضة السياسيين أن هذه التصريحات ما هي إلا وعود فارغة وأن نوايا النهضة الحقيقية ستتكشف في حال فوزها في الانتخابات باغلبية ساحقة.
لكن وعلى ضوء نتائج الانتخابات في عام 2011 اضطر حزب النهضة إلى تشكيل ائتلاف بالتعاون مع احزاب علمانية، وبذلك وجد الحزب نفسه جزءً من العملية الديمقراطية الاولى في تونس، والحكومة التي تشكلت كانت مكونة من عناصر النهضة وممثلين عن «الكونغرس من اجل الجمهورية» بزعامة ناشط في حقوق الانسان، منصف المرزوقي (الذي عين في منصب رئيس الدولة) وممثلين عن حزب التكتل، وهو حزب وسط يسار جديد وقد حصل على انجازات لافتة في الانتخابات، وكان هذا ائتلاف غريب بدون قواسم مشتركة بين جميع الاطراف. وقد كانت في الماضي علاقات بين اتباع المرزوقي وبين حزب النهضة، وحين أصبح الحزب في السلطة سعوا إلى التواصل معه. تعهد النهضة بالابقاء على الديمقراطية والحفاظ على المؤسسات التونسية المعتدلة، والتعايش مع معارضة علمانية طالبت بطردهم من السلطة والخوف من أن يكون مصير الحركة الإسلامية مثل مصير الاخوان المسلمين في مصر، كل ذلك دفع زعماء النهضة إلى التنازل والاستجابة للوساطة التي قامت بها النقابات المهنية، وتم الاتفاق على اقامة حكومة جديدة تكون حكومة تكنوقراط، وبدأ حزب النهضة بعملية مراجعة داخلية استمرت طوال الفترة التي سبقت الانتخابات البرلمانية في بداية تشرين الثاني من اجل تحسين فرصه في المستقبل. هذا التغيير السياسي لم يكن حل وسط، وانما جهدا لتشكيل وحدة وطنية. حوار وتضامن بين المجموعات المختلفة في الدولة.
في مقابل النهضة وقفت حركة سياسية علمانية جديدة هي «نداء تونس» بقيادة السياسي التونسي العريق باجي قائد السبسي (87 سنة)، وتعهدت الحركة باصلاح تونس واعادة احترامها الضائع. السبسي ومعه اشخاصا كانوا في ايام نظام إبن علي أكدوا على تجربتهم الكبيرة في ادارة الدولة ووعدوا باعادة أمجاد الماضي لتونس، وحسب نتائج الانتخابات البرلمانية فان معظم الناخبين التونسيين قد أعطوا اصواتهم لحزب السبسي، الذي فاز بـ 85 مقعدا من أصل 217. وفاز النهضة بـ 69 مقعدا، الامر الذي يشير إلى استمراره في الحياة السياسية. وقال المراقبون إن التصويت لصالح حزب السبسي يعزز من فرص نجاحه في الانتخابات على رئاسة الدولة، والتصويت لم يأت بالضرورة تأييدا للحزب العلماني وانما احتجاجا على حزب النهضة. حزب السبسي لم يقدم بعد الخطط حول كيفية التغلب على مشاكل تونس الملحة. إن المصاعب الاقتصادية ونمو الجهات السلفية المتطرفة من شأنها أن تؤثر على عمل الحكومة التونسية الجديدة والتي ستكون حكومة ائتلافية، وهناك اصوات تنادي باقامة حكومة وحدة وطنية بمشاركة النهضة.
الانتخابات الرئاسية في نهاية تشرين الثاني عكست اتجاهات مشابهة، ففي الجولة الاولى لم ينجح أحد من المرشحين في الحصول على نسبة كبيرة، لذلك ستكون هناك جولة انتخابية ثانية في نهاية كانون الاول، وقد قرر النهضة عدم ترشيح مرشح خاص به لرئاسة الدولة خشية من تأثير هزيمته على مكانته. والعدو الاساسي للسبسي هو الرئيس الحالي منصف المرزوقي.
صحيح أن التأييد للمرزوقي قد تراجع على خلفية المشاكل الاقتصادية، لكن مع ذلك فان الكثيرين من مؤيدي النهضة قد صوتوا للمرزوقي في محاولة لهزيمة السبسي، حيث يدعي حزب النهضة أن حزب السبسي هو محاولة لاعادة السلطة القديمة، ويجب عمل أي شيء لمنع ذلك. هذا ادعاء مبالغ فيه، صحيح أن شخصيات من حزب السبسي كانت في النظام القديم إلا أن هذا الحزب «نداء تونس» هو عبارة عن ائتلاف الكثير من القوى والاحزاب المهمة، ويعتقد المحللون أن الحزب اذا فاز في الانتخابات الرئاسية وقام بتشكيل الحكومة ايضا فسيكون من الصعب عليها ايجاد حلول عملية للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية لتونس. ادعاء آخر يقول إن هذا حزب الشخص الواحد، وباستثناء السبسي لا يوجد للحزب ما يقدمه للجمهور.
على ضوء المصاعب التي تمر بها تونس هناك شك حول مدى نجاح الثورة، فمن جهة أدت الثورة إلى تغيير النظام واسقاط حكومة النهضة بطرق سلمية، ويعتبر الغرب أن هذا تقويم للخطأ الذي حدث وهو صعود حزب النهضة إلى الحكم في عام 2011. منتقدو «نداء تونس» يقولون إن الخشية هي أن يعيد هذا الحزب النظام القديم إلى تونس.
في جميع الاحوال فان الانتخابات في تونس هي انجاز مهم بالنسبة لهذه الدولة. عملية التصويت (باشراف ورقابة دولية) مرت بدون أخطاء. وقد قبلت جميع الاحزاب قرار الناخب، ويمكن القول بحذر إن تونس تقيم نظاما ديمقراطيا عربيا، وهذا مقبول على الجهات الإسلامية التي هي شريك في العملية السياسية في الدولة. والسؤال الذي لم تتم الاجابة عليه بعد هو: هل هذه العملية السياسية ستشق الطريق من اجل حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في تونس؟

دانيال زيسنوين
«مفترق الشرق الاوسط» 17/12/2014

صحف عبرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حسن الزين - بنزرت- تونس:

    حركة النهضة بصدق نواياها و بانضباطها و بحبها الشديد على التعايش مع كافة الأطياف السياسية في البلاد لم تترك فرصة واحدة لمنتقديها في الداخل أو الخارج و يظهر ذلك جليا في هذا المقال.

  2. يقول فتح عساكر- تونس:

    أرد على سؤال السيد دانيال هل أن العملية السياسية ستشق الطريق نحو حل المشاكل قال المرشح السبسي أن ليس لديه عصا سحرية و لكن برامج للغرض.

  3. يقول انيس من تونس:

    للمرة الالف الذي صار في تونس في 2011 هو انقلاب بمساعدة اطراف خارجية استغلوا. بعض الاحتجاجات المحدودة و من بين الدلائل على ما اقول هو قبض المواطنين على أشخاص تابعين لاستخبارات غربية و مسلحين في قلب العاصمة يقومون بقنص المتظاهرين قيل انهم يحملون جوازات المانية و سويدية لكن الجيش اطلق سراحهم فيما بعد. النقطة الثانية و هي مهمة ارى الكثير يتحدث عن التونسيين-مثل صاجب المقال- و يعتبرهم مثقفين، فمن اين لكم هذا؟ هذا الشعب الذي أنتمي اليه، مر منذ ” الاستقلال” بسياسات تجهيل و تهميش و تفقير على المستوى المادي و الثقافي ظلت تمارسها العصابات الحاكمة المستحوذة على الرأسمال الوطني لفائدتها و لفائدة فرنسا. حتى اذا اعتبرنا ان تعريف الثقافة عند العامة يعني أن يكون الانسان متمكنا من الكتابة و القراءة فلكم أن تتأكدوا بانفسكم بان المناهج التعليمية المنحطة في تونس انتجت جيلا لا يتقن لغته العربية و لا حتى الفرنسية التي يتبججون بها. لقد مارس الاستعمار الفرنسي و مازال الى اليوم-عبر لوبياته- تاثيرا واضحا في العقلية التونسية المنبطحة لكل ما هو فرنسي ففقد الانسان التونسي شخصيته معللا ذلك بانه انسان متسامح لكن شتانا بين التسامح و الانبطاح و الخضوع. اعطوني مثالا للانتاج الفكري الثقافي و العلمي انتجته تونس منذ الاستقلال المزعوم؟ التونسي العادي لا يعرف الا كرة القدم و الغناء و الموضة و اخيرا أصبح عريفا في السياسة، فكفوا عنا المجاملات المثيرة للسخرية، لقد سئمنا هذا النفاق.

  4. يقول فتح عساكر:

    لصاحب الرد الأخير هل الى هذا الحد يبغض تونس؟

إشترك في قائمتنا البريدية