انتقام الطائر الأزرق

«تغريدة» كان العنوان المحدد أصلا لمقال هذا الأسبوع في إطار مواصلة سلسلة المقالات أحادية العناوين، التي بدأناها قبل أسبوعين (ميلاد، تخصيب) لكن كان صعبا مقاومة رغبة الاعتماد منذ البداية على الشخصية الرئيسية لقصتنا. هذه الشخصية أشهر طائر في العالم. طائر تويتر الأزرق المغرد في كل مكان، وفي أكثر من مرة، خارج السرب.
لكن هذه المرة، ورغم رحابة صدره المعهودة، بل الموثقة في مقدمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إذا راجعنا كلمتي «أحرار» و»سواسية» أبلغنا الطائر بأن أحد مستعمليه تعدى الحدود، حيث لم تكن هناك حدود من ذي قبل… ما عدا السب والشتم الخاليين من كل التباس. لقد أبلغنا الطائر الأزرق أن أشهر مرتاديه لم يعد مرحبا به على متن رحلاته المخترقة لجداري الصوت والصورة.
انتهت الرحلة، لقد اصطدم الإقلاع في عوالم الأخبار الزائفة والحقائق البديلة بهبوط مرّ وأليم في عالم الواقع. الواقع، كلمة لم يكتب لها الكثير من السداد في عهد دونالد ترامب الرئيس الأمريكي، فهو من عنيناه، طبعا، منذ بدء كتابة هذه السطور على نمط «إياك أعني واسمعي يا جارة». كلنا نتذكر قصة «الجارة» قصة حارثة بن لأم، سيد الحي الذي سأل عنه سهل بن مالك الفزاري قاصدا النعمان، فلم يتمالك أن يخفي مشاعره أمام أخته طويلا. وكأن ترامب نفسه راهن على مغازلة «الجارة» على أن تكون الجارة هذه المرة الشعب، الشعب بالمعنى الذي يتربصه الشعبوي، بعد أن جعله هدفا لبلاغته، معوّلا على استعداده لاستقبال رسائل يصاحب الشكوى فيها الاستعطاف والتودد فتسهل مداهنته أكثر. بعبارة أخرى، قام رهان ترامب البلاغي على سعي المتحدث المستمر إلى الظهور في صورة «الضحية» مضمنا كل رسالة يبعثها إيماءات تتوخى إفادة أن نخب «الاستبلشمنت» كما يقال في بلاد العم سام، خططت لإسقاطه ما أن اعتلى المنابر السياسية.

ترامب جعل الشعب هدفا لبلاغته، معوّلا على استعداده لاستقبال رسائل يصاحب الشكوى فيها الاستعطاف والتودد فتسهل مداهنته أكثر

هنا، طبعا، يتمدد طيف نظريات التواطؤ لينطلق من تكالب النخبة على الشعب وممثليه، مرورا بتكذيب كل حدث يفرض مجابهة واقع أليم، مثل الجائحة حاليا، انتهاء بتزوير الانتخابات. «إياك أعني واسمع يا شعب» تلك رسالة ترامب الموجهة إلى من حوله، أو بالأحرى، كانت… لأن الشعب بعث رسالة مضادة مفادها «أنا بريء مما تقول». بريء مما تقول، لأن أي نظرية تحلق فوق أرضية الواقع ينتهي بها المطاف، عاجلا أو آجلا إلى التراجع. ولدينا هنا مثل بليغ… بليغ بلاغة الخطاب الشعبوي، لكنها بلاغة معكوسة أرخت الحبل لخطاب الجارة البليغة ولم تترك له (عكس القصة) مجالا للاستدراك :
«ماذا بقول ذي عقل أريب، ولا رأي مصيب، ولا أنف نجيب
فأقم ما قمت مكرما، ثم ارتحل متى شئت مسلما .»
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية