انتهت معركة «المطّلع» وبقيت القدس عليلة

حجم الخط
0

أفرح إعلان وزيرة الصحة الفلسطينية مي الكيلة، عن التوصل لاتفاق ينهي أزمة مستشفى أوغوستا فكتوريا/المطّلع، قلوبَ المقدسيين، ومعهم جميع الغيورين على سلامة النسيج الأهلي في المدينة، وعلى ضرورة تمتين الروابط بينهم وبين مؤسسات منظمة التحرير، والمحافظة على مكانة السلطة الوطنية الفلسطينية وعلاقتها مع مدينة القدس ومع أهلها.
جاءت بشرى الوزيرة، خلال مؤتمر صحافي عقد يوم الأربعاء المنصرم في اعقاب اجتماع ضم وزير المالية شكري بشارة، ووزير شؤون القدس فادي الهدمي، وممثلًا عن المحافظة ووفدًا عن الهيئة التمثيلية للمستشفى برئاسة الدكتور وليد نمور.
لا أعرف كمية الأذى الذي أصاب بُنى المناعة الوطنية المتآكلة أصلًا بين سكان المدينة الفلسطينيين؛ فتداعيات هذه الأزمة وطريقة إدارتها، لاسيّما من قبل المسؤولين في المستشفى، وركوب بعض «الغرباء» عليها، أدى إلى إخراجها عن مسارها العادل والصحيح؛ وإلى توظيفها، في بعض المحطّات، بأرصدة لم تضمر، على الأغلب، الخير لمستقبل المستشفى؛ بل كانت تفتش، لدوافع سياسية فئوية، عن أسباب للقدح تجاه قادة السلطة الفلسطينية وقادة منظمة التحرير.
لن أدخل في التفاصيل المالية، وقيمة الدين الفعلي وتواريخ الفواتير المقدمة وعملية التدقيق الصحيح، التي اختلف الفرقاء على توصيفها ولم يتفقوا على مسبباتها؛ لكنني أؤكد على أن بعض العناصر التي كانت وراء تضخيم معالم الإشكال ولجوئها إلى استعمال «قفشات» إعلامية صارخة، مثل استعراض خزائن وأدراج الدواء الخالية، لم تنتبه إلى ما قد يؤدي إليه هذا التصعيد الصدامي الخطير، وإلى حقيقة تخطيه ضرورة تجنيد الرأي العام بدوافع إنسانية لصالح المستشفى ومرضى السرطان، وتحوّله إلى عملية تحريض سياسية، ستؤدي إلى تأليب «الجماهير» على «فلسطين» وشحنها بذرائع مبطنة، ضد سلطتها الوطنية وقياداتها، خاصة أولئك «الظُلّام العابثين» بأرواح المرضى، والمتمترسين على هضاب رام الله وفي أكنافها. وقد لا يضر هنا أن نؤكد على أن تصرفات بعض أولئك القادة تجاه القدس والمقدسيين، في قضايا ذاع صيتها،  قد ساعدت، في الماضي، على تمرير سياسة التبغيض المذكورة وعلى إنماء حالة التنافر الموجودة.
كانت محاولة تحزيب الشعب إلى معسكرين خاطئة وخاسرة؛ فالجميع، بدون استثناء، يقفون إلى جانب مرضى السرطان ويدعمون حقوقهم الكاملة، ويقرّون في الوقت نفسه، بدور مشافي القدس العربية التاريخي في أيواء أمل أولئك المرضى، وفي تربية أحلامهم نحو حياة آمنة ومستقبل سعيد. أنا على قناعة بعدم وجود فلسطينيين أمناء وغيورين يتعمدون، عن سوء نية، إيذاء هذه المؤسسات الطبية العريقة، والمس بقدرتها على الاستمرار والبقاء؛ ولكن، في مقابل كل ذلك، يبقى الشعور بالمسؤولية العامة، عند انقياء النفوس، حكمًا فاصلًا بين هذه الحقائق وضرورة إدراكنا لوجود أوجه عديدة لأزمة المستشفى؛ ويبقى، لذلك، وعينا وضميرنا خيمتين، والوطن بوصلة.
نعيش في القدس ونشاهد، بحسرة وبوجع، كيف عملت إسرائيل وأعوانها على خلق حالات من «البلبلة الوطنية»، وكيف نجحت بزرع مشاعر اليأس في صدور  الناس، ومضت، بمنهجية خبيثة، نحو إحكام سيطرتها على معظم مرافق المدينة، وعلى غالبية قطاعات الحياة فيها. وقد سبق عملية السيطرة هذه نجاحها في تشويه وتعقيم إرادة المواطنين بعد أن أقنعتهم، بحبائلها أو من خلال وسطاء وعملاء لها، بعدم شرعية وأهلية قياداتهم الوطنية، وبعبثية انتمائهم الفلسطيني. بدأت، في السنوات الأخيرة، شرائح واسعة من مواطني المدينة بالانسلاخ التدريجي عن «سلطة رام الله» وبربط مصالحهم الفردية بسرة الاحتلال وبقنواته الاقتصادية، أو بأثداء البلدية وبخدماتها «الندية»؛ بينما عملت على ضفة المدينة الأخرى مراكز قوة، كانت في معظمها حديثة النعمة، على إنبات قيادات محلية بديلة، لتتبوأ المنصات والمنابر، وتتحكم في شوارعها، علمًا بأن أرصدة بعضها كانت مكشوفة للملأ وأخرى لم تتعرَّ نواياها الحقيقية، ولم تثبت قدراتها على الصمود في وجه مخططات إسرائيل الابتلاعية الشاملة.

لم تستسلم القدس يومًا.. كان الصمود عند أهلها يعني البقاء بمعناه الوجودي الوطني الشامل

لم تكن أزمة مستشفى المطلع المنتهية مؤخرًا أول عثرات هذه المؤسسة، ولن تكون أشدها؛ فقبل عامين بالتحديد واجه المطّلع أزمة مالية شبيهة بالتمام؛ وحلّها «الشطّار» في حينه، بقليل من الدعاء والبكاء، وبكثير من «القطران»؛ ونستطيع اليوم أن نتكهن على أن  هذه المشكلة لن تحلّ بدفع المال فقط، تمامًا كما هو الحال مع باقي المشاكل التي تواجهها مؤسسات القطاعات الأخرى في مدينة القدس؛ فموارد السلطة المالية محدودة والمطالب أكبر من طاقاتها،  والمال، وإن كان ضرورة وركيزة مهمة من الحل، إلا انه غير كاف إذا لم ترافقه «فياصل»، قياديون ومديرون يقودون القدس ومؤسساتها برؤى إدارية عصرية وسليمة، وبإرادة وطنية صافية وحرّة، ويكرّون في ساحات المدينة وفي أزقتها بصدور تذيب الصخر وتصهر الفولاذ.
لن أزايد على أحد لكنني كنت شاهدًا، من مواقعي في العمل، خلال أربعة عقود على كيف ليّنت القدس قساوة الدهر وأجهضت قبابها جميع المؤامرات وتخطى شبابها وحرائرها في الميادين كل المحن. فلقد حاول محتلوها، مباشرة، إذلالها وطمس معالمها العربية وتهويدها وضمها إلى اسرائيل، لكنها صمدت بتضحيات أهلها الميامين وبحكمة قادة أمناء وصادقين. لم تستسلم القدس يومًا. كان الصمود عند أهلها يعني البقاء بمعناه الوجودي الوطني الشامل، وهو لذلك قد تخطى سحر الدولار، أو استرضاء السماء، وانتصر على إغواء المصالح؛ كانت التضحية من أجلها ذخيرة لا تنضب، فنام الناس في ساحات مدارسها كي تبقى «ضادهم» نواقيس رنانة ومآذن صدّاحة؛ وعندما قتّروا عليها حوّل فوارسها انتماءهم الحقيقي بئرًا لتبقى فلسطينهم روح الغيم وتبر الزمن.
«للحقيقة وجهان» قال الدرويش «والثلج أسود فوق مدينتنا» فعساني قد خيّبت آمال بعضكم، لأنني كنت استطيع أن أكتب غير ما كتبت، وأن أشتم «سلطة رام الله» وأهاجم رئيسها ووزراءها، وأن أتهم الرئيس ومن حوله، وأن أقرّع بإمارة غزة وبأفعالها، وأن أجهش مثل وردة يقصفها الندى؛ لكنني اخترت ألا أفعل ذلك، لأنني أعيش في «قدسي» وأعرف من فيها يحلم بالسيف ومن سيفرح لبطشي وليأسي؛ فأنا وكثيرون مثلي «لم نعد قادرين على اليأس أكثر مما يئسنا.. والنهاية تمشي إلى السور واثقة من خطاها..».
فكم قاومت تلك القدس الاحتلال وأعداءها وهي حافية عطشى، لكنها أبت إلا أن تبقى مدينة الريح الشرقية.. عاصمة السماء الشقية.. عذراء فلسطينية الجوارح.. دعجاء تمتص ليلها السانح وتنام على نبض «أميرها « وتصحو كالفجر دفاقة المنى ندافة الشوق وصاحبة الشمم.
أتمنى أن يذوّت جميع الفرقاء، وأوّلهم القيّمون على إدارة المستشفى أبعاد وأضرار «معركتهم» على قضية «المناعة الوطنية» الفلسطينية؛ ويكفي، بهذا الصدد، أن نقرأ ما كتبه جيسون غرينبلات، بعد الإعلان عن حل الأزمة، حين عبّر عن ارتياحه بدفع  الأموال للمرضى وليس لعائلات الأسرى، أو بلسانه: «المجرمين الفلسطينيين»؛ وأتمنى أن يتوصل فريق من الباحثين المهنيين إلى أسباب تشكّل الأزمة وتكرّرها بهذا الشكل الخطير والمقلق.
وأخيرًا، فرغم الشقوق التي خلّفتها هذه المعركة الزائدة في نفوسنا، نشعر بأنها أعادتنا إلى زمن «النخوة» المقدسية الجميلة، وأرتنا كيف يكون صمود أهلها دروعًا حامية لمؤسساتها الوطنية؛ وذكرتنا مجددًا بأهداف عدونا الأول والأخطر، ونبهت من أغفلوا أو نسوا بأن للحقيقة وجهين وبمن «سيدفن أيامنا بعدنا: أنت.. أم هم ؟ ومن سوف يرفع راياتهم فوق أسوارنا: أنت.. أم فارس يائس؟». من سيرفع الرايات الخافقات في قدسنا؟  فلقد انتهت فيها وعليها، قبل أيام، معركة.. لكنها بقيت مدينة عليلة.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية