«انضبوا» و«اقعدوا على السّكت»…

حجم الخط
12

«خلّيهم ينضبوا»، كثيراً ما كنا وما زلنا نسمعها أثناء مواجهات صوتية في الحارة بين الجيران، عادة ما يوجّهها رجل قوي شرس إلى رجل آخر أضعف منه، بهذا يطلب منه ضَبَّ نسائه من زوجة وشقيقات وبنات ارتفعت أصواتهن لنصرة رجلهن أو دفاعاً عن حق لهن.
أحد معاني الضبّ والتضبيب في القاموس العربي، هو تغطية الشيء ودخول بعضه في بعض، وإخفاؤه.
تقول المرأة في بلاد الشام، ضبّيت البيت، أي أنها رتبت الفراش والمقاعد وأواني الطعام وكنَسَت وأعادت كل شيء إلى ما كان عليه قبل الاستعمال.
المصريون يخففونها ويقولون «وضّب الشّنطة» أو وضّب الشقّة، ووضّبت أغراضي، وتوضيب البيت.
تخفي عبارة «خليهم ينضبوا»، بين أحرفها تهديداً مُخفّفاً، لأنه يمنح المتلقي فرصة لتدارك الأمر قبل انفلاته، كذلك فيها عدم احترام للمقصودين بـ «خليهم ينضبوا». فقد يكنَّ نساء يأنف كبرياء الرجل وشهامته من مخاطبتهن مباشرة، فيطلب من رجلهن بأن يضبّهن.
حين تسمع هذا، تشعر بأن الحديث يدور عن روبوتات يمكن وقف عملها وتوجيهها بكبسة زر، مثل الشمسية، أو ريموت السيارة، وهذه تظهر مدى سيطرة الرجل، فإذا كبس على زر «انضبوا» ولم يستجبن، فهذا يعني أن حضرته عاجز وفاقد للسيطرة، وهذا لسبب ما، وقد تهتز صورته لأن القصة «فيها إنّ»، فكيف لعاجز عن ضب إناث بيته أن يواجه الرجال، أما إذا استجبن وانضببن فنضبت أصواتهن كأنها لم تكن، فهذا يعني أن الرجل مهابٌ وذو بأس شديد، فإذا ما حاولت إحداهن إطلاق حنجرتها بعد صمت، اعتبرها تهديداً لرجولته واستهتاراً بمقامه، حينئذ قد يرد بعضهم بقصف فمها براحته وهو يصيح بغضب «بدّيش أسمع ولا نفس» وقد يقول: «اللّي بتتنفس بتموت»، وفعلاً يسود صمت متوتر، وانتظار لما هو آت، ثم يلتفت الرجل الغاضب إلى ندّه ليتفرغ له ويتفاهم معه حول ما حدث.
قد يحصل أن يعجز الطرفان عن وقف تدهور المشادّة فيتواصل الشدّ ويحتد، وتُسمع ألفاظ بذيئة وقاسية، ويركض هذا أو ذاك لإحضار عصاً من «تحت بيت الدرج» أو قضيب حديد أو رفش من الحديقة أو شاشة كمبيوتر تالفة ملقاة إلى جانب حاوية القمامة، يتأزم الوضع ويصبح خطيراً جداً، ويصبحون على وشك الصدام الجسدي المدمّر، حينئذ يتدخل طرف ثالث أو رابع ليكبس على الزر ويقول «يكفي يا جماعة، عيب عليكم، كل واحد يضبّ جماعته»، وهذا يعني أن يتحمل كل طرف من الكبار القادرين مسؤوليته تجاه ما يحدث بين أصحاب الرؤوس الحامية قبيل وقوع كارثة.

تخفي عبارة «خليهم ينضبوا»، بين أحرفها تهديداً مُخفّفاً، لأنه يمنح المتلقي فرصة لتدارك الأمر قبل انفلاته، كذلك فيها عدم احترام للمقصودين بـ «خليهم ينضبوا».

بعد هذه المرحلة تأتي مرحلة «اقعد على السّكت»، وهي مرحلة حسّاسة جداً، تُحسب بدقة، متى ولمن تقال، ومن الذي يقولها، لأن فيها تهديداً ووعيداً مبطناً، يعني إياك أن تأتي بأية حركة، لأن القرار قد اتخذ، والرد سيكون عنيفاً بدون مراجعات أو نقاشات جديدة، وبمجرد أن تأتي بحركة ولو بالصوت، سيكون رد الفعل قاسياً جداً.
«اقعد على السكت»، تحمل في طيّاتها استعلاءً وغروراً وقمعاً، وإذا قارنا بين «خليهم ينضبوا» و«اقعد على السكت»، نجد أن اقعد على السكت أشد عدوانية وشراسة، وقائلها سادي يملك أدوات وقدرات جسدية أو أسلحة يثق بنجاعتها، بينما «خليهم ينضبوا» فيها لمسة تهديد مخفّفة وفيها منح فرصة لإعادة نظر.
عبارات كهذه كنا نسمعها بعد فرز الأصوات في الانتخابات المحلية بعد منتصف الليل، وظهور الفائز برئاسة المجلس المحلي.
فجأة تتساقط الحجارة، ويبدأ الرمي المتبادل بين شبان العائلتين المتنافستين على رئاسة المجلس البلدي، يخف تارة ثم يعود إليه الزخم تارة أخرى، إلى أن تصل شاحنات من القرى المجاورة يقف فوقها عشرات الرجال الملثمين والمسلحين بالعصيّ الثخينة، يتقدمهم وجهاء يدخلون في المنطقة العازلة بين الفريقين، ثم يتوجهون إلى المتخاصمين بكلام التخجيل وإيقاظ ضمائرهم.. يا عيب الشوم عليكم، أنتم أهل وأنسباء وأولاد بلد، استحوا على دمكم، ارم الحجر من إيدك، وأنت هناك.. انزل عن السطح، قلنا لك انزل عن السطح، من يبقى على السطح لا يلومن إلا نفسه، يا عيب الشوم عليكم، أيعقل أنك أنت العاقل والآدمي يا فلان ترمي الحجارة على الناس، كنت أحسبك عاقلاً.
بعد نقاشات حادة تارة ومخففة تارة أخرى، يمون الضيوف على كبار القوم، ويلزمونهم بتبادل زيارات فورية لاحتساء فنجان قهوة سريعٍ ليكونوا قدوة للشباب، ويلخصون المعركة: يا جماعة، إلى هنا وصلنا وانتهى الأمر، الحمد لله لا يوجد سوى خسائر طفيفة، بالمال ولا بالعيال، كل طرف يصلح خسائره بنفسه، ومنذ هذه اللحظة سماء جديدة وأرض جديدة، ومنذ صبيحة الغد تعودون للجلوس حول طبق واحد.
هذه التداعيات استيقظت عند سماعي قول السيد حسن نصر الله للإسرائيليين «انضبوا»، والتي عنى بها كفّوا شرّكم عنا، ولا ترغمونا على المواجهة، والتي لا أعرف إذا ما نجحوا بترجمتها بدقة لنتنياهو الذي رد عليه بالقول: «أنت اقعد على السكت»، التي تعني للشعب الإسرائيلي كما فهمتها، أن نصر الله يعرف لماذا ضربنا وما الذي ضربناه وهو خطير جداً، ومن ناحية أخرى يخاطب نصر الله «دعني لأتباهى بهذا الإنجاز أمام جمهوري قبيل الانتخابات، وسوف أنضب، شرط أن تقعد أنت على السّكت وتمرّرها لثلاثة أسابيع على الأقل.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    أتذكر أول شهر لي بالنرويج حين كنت بأحد مساجد أوسلو وكانت هناك سيارة شرطة خارجه مع قناة التلفزيون النرويجي! بعد سؤالي للإخوة قالو لي بأن هناك خلاف بين جماعتين بالمسجد على أموال المسجد!! هناك صرخت فيهم: ألا تخافون الله؟ ألا تخجلون؟ ألا يوجد كبير بينكم تحتكموا إلية بدلاً من فضائح التلفزيون؟ لماذا لا تتقاسموا الحل, أو تدعوا لإنتخابات جديدة؟ لا يجوز أن يتدخل بينكم غريب يريد الشماتة فيكم, ماذا تقولون؟ عندها رحلت الشرطة والتلفزيون وكذلك رحلت أنا وكلي سرور بأني كنت سبباً بالصلح!!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    رغم أني ضد حزب حسن بسبب جرائمه بالشعب السوري, إلا أني معجب بحق الرد الذي يمتلكه! ليت بشار يتعلم!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول أحمد طراونة - لندن:

    عزيزي الكاتب، بعد التحية؛ أعتقد أنهم نخّوا جميعاً أمام النتن وتناولوا من على الرف إستراتيجية قاتل ومشرد شعبة، حارق و حارث مدن بلدة، النتن الوسخ الآخر الطائفي العلوي…. سنرد بالزمان والمكان المناسبين…. تطأ طبعاً عندما يجوبن بعد أن حس بالحامي…أُثني سيدي على أسلوبك العظيم بالكتابة والوصف.

  4. يقول كمال - نيويورك:

    اعجبتني المقدمة كثيرا فهي تعكس الواقع وكنت ابتسم و اضحك خلال قرائتي للمقال حيث لم تغب عني الفكاهة في طياته و كذلك البعد السياسي. نتنياهو يتمادى كثيرا و الآتي اعظم، يا فرعون مين فرعنك، قال تفرعنت و ما لقيت حدا يردني.

  5. يقول نسيم عاطف الأسديّ:

    جميل ما كتبته أستاذ سهيل كما اعتدنا وكما عودتنا. خلال قراءتي لمحاولات فض النزاع بالكلام بكيت على تلك الأيام التي كان فيها السلاح عصا أوشاشة حاسوب. أذكر قصة حقيقية حصلت في قريتنا توجه رجل في الستينيات من عمره لشاب صغير السن يجلس في سيارته التي سد بها الشارع وقال له: معك فرد؟ فأجاب الشاب بالنفي، فقالله الرجل الستيني: طيب انقلع افتح الطريق.
    ليت حالنا بقي كما كان، فاليوم أي جدال يحوله خفافيش الليل إلى إطلاق رصاص أعمى قد يصيب وقد يخطئ الهدف، والغريب أن ثقافة إطلاق الرصاص تتفشى فينا كتفشي النار في الهشيم، ولعل السبب في ذلك أننا كالهشيم ثقافة ونضجا وعقلا، فالنار في نهاية المطاف هي النار والاختلاف يبقى في العشب أو … في الناس.
    دمت مبدعا أستاذي العزيز

  6. يقول د. نبيل طنوس:

    كثير ما تحدث هذه الحالات ومن يستعمل التعابير “انضبي، انضبوا وغيرها” هو فرد متسلط وهذا الاسلوب هو الجدل. نحن بحاجة إلى اسلوب الحوار، يقول باولو فيريري :”يرتكز الحوار الجيد على خمسة اسس: المحبة والتواضع والأمل والإيمان بالإنسان والتفكير الناقد”. لا أمل لتطورنا بدون الحوار السليم.بوركت عزيزي

  7. يقول سوري:

    هذه المصطلحات التي يستخدمها الاخوة الفلسطينيون نستخدمها نحن السوريين ايضا وكذلك الأخوة اللبنانيون وهذا دليل واضح على اننا شعب واحد اصيل فرقنا الطائفيون من امثال حسن نصر الله والمجرم ابن المجرم بشار الكيماوي والمقبور ابوه.

  8. يقول سلام عادل(المانيا):

    لا اعلم ان كان هناك غير حسن نصر الله من غير الفلسطينيين تهتم به اسرائيل وتخشاه وتحاربه هو يقود حزب طائفي وكلنا نعرف ذلك ولا يمكن ان نجد حزب ديني ليس طائفيا ولا حزبا قوميا ليس عنصريا ولذلك فلما العجب من وقوفه مع النظام السوري وبنفس الوقت جاءت طوابير وجحافل من كل انحاء العالم باسم الدين والطائفية لتحارب باسم الثورة السورية ولا زالوا كذلك

  9. يقول رسيله:

    صباح الياسمين لك كاتبنا ولكل القراء والقارئات مقالتك الرائعه اجتماعيه تحليلية تدمج ما بين قضايا اجتماعيه سائده منذ قرون لها سيرورتها المعاصره الى يومنا هذا موضحا أثرها الكبير على المجتمع و نظرته لها حيث قمت كاتبنا بربطها بكل حنكة وذكاء بظواهر سياسية تشغل الرأي العام تاركا للقاريء مهمة استنباط آراءه واتجاهاته الفكرية.
    أسلوبك الساخر في الكتابة أضفى جمالية رائعة على المقالة وجعلني اضحك كثيرا متخيلة ” الطوشه” التي حدثت والتي تحدث في كل حارة من بقاع مجتمعنا المصغر وتتوسع الدائرة لتشمل المحيط الأكبر فالاكبر ،وقد ذكرتني مقالتك كاتبنا العزيز ببيت شعر للشاعر العراقي احمد مطر حيث قال :” قال لزوجته : إسكتي وقال لإبنه : إنكتم .. صوتكما يجعلني مشوّش التفكير ! لا تنبسا بكلمة أريد أن أكتب عن حرية التعبير.” المقاله اثارت قضية مهمة وهي قضية المشوره وهل على الرجل ان ياخذ براي المراة ام انه هو القائد والآمر والناهي فمجتمعاتنا العربيه ما زالت محكومة بعقلية ذكورية بحته( يتبع)

  10. يقول رسيله:

    ( تكمله ثانيه ) وعندما نتتبع التطور الحاصل في حياة المرأة منذ زمن بعيد إلى يومنا هذا نجد أنه محكوم بنظرة أحادية الجانب يملكها الرجل فقط ولا تشاركه المرأة فيها, نعم من الحقيقة بمكان أن نعترف أن هناك تغيرات طرأت على المرأة بشكل عام و ذلك حسب الثقافات والعادات والأديان، ولكن ظل الرجل هو الذي يحدد للمرأة واجباتها و حقوقها حيث ما زال ينظر للمرأة على انها ضلع قاصر ولا يمكن النظر إليها إلا مضافة إلى غيرها مما يقلل من شأنها ويعطيها شخصية وهمية أو مجازية في أغلب الأحيان.
    هذا وعلى الرغم بان ديننا الاسلامي يشير إلى انه لا بأس من الأخذ برأي المرأة إذا كان سديداً موافقاً للحق، وذلك لأخذ النبي صلى الله عليه وسلم رأي أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ في الحديبية، وقد صار هذا دليلاً لجواز استشارة المرأة الفاضلة، وذلك لفضل أم سلمة ووفور عقلها، وقد أخذ العبد الصالح شعيب برأي ابنته حين قالت: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ{26}.وفي الصحيحين من حديث أم عطية ـ رضي الله عنها ـ عندما غسلت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اغسلنها خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك ـ إن رأيتن ذلك. فرد الرأي إليهن في ذلك.( يتبع)

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية