صدرت عن المركز الثقافي للكتاب في الدار البيضاء رواية «انعتاق الرغبة» للشاعرة والروائية المغربية فاتحة مرشيد، وهي الرواية السادسة في رصيدها السردي، الذي يدور في مجمله في فلك المغايرة والاختلاف.
ولعلّ القارئ الذي يطلّع على «مخالب المتعة» و«المُلهِمات» و«التوأم» سيدرك حجم جرأة الكاتبة، وشجاعتها في التعاطي مع الموضوعات الحسّاسة التي لم تُطرق إلاّ ما ندر، كما هو الحال في هذه الرواية التي عالجت ثيمة التحوّل الجنسي، والمِثليّة، إضافة إلى الثيمات المؤازرة مثل القمع والاغتصاب، وتحوّل الطُغاة إلى ذئاب بشرية تنهش أجساد النساء، وتنتهك أعراضهن جهارًا نهارًا.
تنطوي الرواية على تقنية ميتاسردية تتمثل بالدَفْتَرَين اللذين تركهما الوالد عزالدين عند صديقته فادية، إضافة إلى الصور التي كانت تبعثها شقيقته ربيعة سرًا، وهناك صور أخرى تؤرشِف لمرحلة التحوّل الجنسي التي أصبح إثرها الأب عزالدين امرأة تحمل اسم «عزيزة»، بعد أن تخلصت من معالم ذكورتها ونبذت الجسد الخطأ الذي كانت تسكنه روحها.
ليس من السهل على زوجة عزالدين أن تتقبّل فكرة الجنس الثالث، واعتبرت زوجها خائنًا، وكان عليه أن يخبرها قبل الزواج بهذا السرّ الخطير الذي خبأه عنها زمنًا طويلا. فما الذي سوف تقوله لابنها عندما يكبر؟ أتقول له أنّ والده كان امرأة؟ هذه الإشكالية هي التي صنعت من عزالدين أو عزيزة لاحقًا شخصية مستديرة ومعقدة في آنٍ معًا، والأهم من ذلك أنّ القرّاء يتعاطفون معها، ويتفهمون حاجتها المُلحّة لهذا التحول الجنسي. يطلّق عزالدين زوجته، ويتنازل لها عن كل شيء، ويرحل إلى بلجيكا أول الأمر، ثم إلى كندا لاحقًا حيث يوثق فيها كل شيء، حياته قبل وبعد التحول الجنسي. وقبل أن تتوفى «عزيزة» إثر قصور في القلب والأوعية الدموية تترك رسالة مهمة عند صديقتها الحميمة «فادية» تطلب منها إيصال الدفتر الأول إلى ولدها الدكتور فريد السامي، وثمة دفتر آخر ينتظرها في مونتريال.
تكتظ هذه الرواية بالمفاجآت والقصص الجانبية المؤازرة للثيمة الرئيسية، لكن البنية التصاعدية للنص السردي تخبرنا أن الدكتور فريد يقرر السفر إلى كندا، وهناك يقابل «فادية» التي يعتقد أنها ليست غريبة، وبين تفاصيل الذهاب والعودة تزودنا كاتبة النص الجريء بعملية التحوّل الجنسي التي يتناول فيها المريض هرمون الأستروجين أو جرعات الأنوثة، التي تُبرز الصدر، وتُقلّص العضلات، وتُفقِد الصوت بعضًا من خشونته، كما تُغيّر نوع الشَعر، وشكل الخصر، وتمنح قسَمات الوجه رِقّة مُضافة. أمّا الهدف من هذه العملية فهو الإحساس بهوية متكاملة، وإحداث تطابق كامل بين الجسد والنفس يُفضي إلى التخلّص النهائي من اضطراب الهُوية الجنسيّة.
قسّمت الكاتبة فاتحة مُرشيد روايتها إلى أربعة أقسام، وقد احتشد القسم الثاني بمصادفات عديدة، منها أنّ الجد إبراهيم السامي أطلق على ولده عزالدين لقب الفرس، وهو الواحد من الخيل، ويُطلق على الذكر والأنثى، كما أنه من برج القنطور، وهو كائن نصفه الأعلى إنسان، والأسفل فرس، وهكذا تتوالى المصادفات والمفاجآت لكننا كمتلقين نمسك بجوهر المشكلة، حينما نكتشف أن عزالدين كان يحب منذ طفولته تقمص الأدوار الأنثوية، والتشبّه بالفتيات لأنه يشعر في أعماقه بأنه امرأة مقيّدة بجسد رجل. وعندما يتزوج يرتدي قمصان زوجته، ويتشممها في غيابها لرغبته الجامحة في أن يجسّد دور المرأة ويتفادى دور الرجل.
مثلما لم تستوعب الأم مريم قصة التحوّل الجنسي لزوجها عزالدين، حيث طلبت منه الطلاق والتواري عن أعين الناس لم تحتمل صوفيا زوجه الدكتور فريد أن يكون جد أولادها امرأة، فلا غرابة أن تطلب منه الطلاق.
تؤكد الروائية على أن هناك دولاً عديدة اعترفت بالجنس الثالث، وضمنت حقوقهم الاجتماعية والمدنية مثل الهند وباكستان، لكن هناك العديد من رجال الدين مازالوا يخلطون بين المثلية، والانحراف، والتشبّه، والتحوّل الجنسي مع أنّ هذا الأخير هو مجرد اضطراب في الهوية الجنسية ويحتاج إلى علاج سريع وناجع.
وبما أنّ البطولة جماعية فلا غرابة أن تتناوب الشخصيات الرئيسية في النص السردي على الروي، فبعد أن سرد الوالد عزالدين حكاية تحوله الجنسي وأعتق تلك الرغبة الجامحة التي كانت تحتل مساحة كبيرة من تفكيره، جاء دور فادية لكي تروي قصة اغتصابها من قِبل القذافي، وهذا الأمر لم يقتصر على فادية فحسب، وإنما على الكثير من الفتيات العذراوات التي أُشيع أنّ «بابا القائد» كان يستعمل دم بكارتهنَّ لممارسة الشعوذة والسحر الأسود. لقد أفادت فاتحة مرشيد من كتاب «فرائس في حريم القذافي» للكاتبة الفرنسية أنيك كوجون، ومَنْ يدقق في التفاصيل سيكتشــف أن «عائشة» التي وردت في الرواية هي «مبروكة» التي تنتقي للقذافي الفتيات من المدارس والجامعات، وربما تكون «صُوريا» هي الوجه الآخر لفادية أو عالية أو غيرهن من الضحايا اللواتي كان يفترسهن الوحش طوال 42 عامًا من أعوام حكمه الأسود. سوف تهرب فادية مع صديقتها فوزية إلى تونس، ومنها إلى بلد غربي يحترم المرأة كإنسان يعيش الحياة التي يختارها بنفسه. وكانت أسرع إجـــابة تلقتها هي من امرأة عربية تُدعى «عزيزة فرس»، تُقيم في مونتريال، وسوف تعاملها كصديقة حميمة وأمٍ رؤوم.
مثلما لم تستوعب الأم مريم قصة التحوّل الجنسي لزوجها عزالدين، حيث طلبت منه الطلاق والتواري عن أعين الناس لم تحتمل صوفيا زوجه الدكتور فريد أن يكون جد أولادها امرأة، فلا غرابة أن تطلب منه الطلاق، عندها يقرر الهجرة إلى مونتريال بعد أن ضمن عقد العمل في أحد المستشفيات الكندية، بمساعدة البروفيسور برنار لأنه قرر أن يتخلى عن جراحة التجميل التي اختارتها له أمه، ويبدأ في جراحة التحوّل الجنسي. فالتجميل بحد ذاته ليس عملاً جبارًا وإنما هو تصحيح هوية جنسية، ومصالحة جسد بروح، وهو ولادة جديدة، ومأثرة علمية لم يتذوّق طعمها من قبل.
لا يزال فريد يتحدث بضمير المتكلم الذي سيفعل أشياء كثيرة تربطه بفادية التي أحبها، وسيركع لها كأي رجل محترم، ويقول لها أحبك كما أنتِ بدون رتوش، وأُحب فكرك، وجسدك، وقلبك الطيب، وأطلب يدك للزواج من أهلك إن قبلتِ بي زوجًا وشريك حياة. ربما توقظه المطبّات الهوائية فيستفيق من أحلامه الوردية ليتذكر ما دوّنته عزيزة في دفترها الأثير الذي قالت فيه: «أن تستقبل المجهول هو أن تستقبل الحياة».
طعّمت الكاتبة فاتحة مرشيد نصها السردي بالعديد من الشذرات الفكرية والدينية والأسطورية، بل إن المعلومة الطبية والنفسية والأخلاقية، وجدت طريقها إلى متن الرواية وتعالقت معها خالقة جوًا فريدًا لا يستوعبه إلاّ العمل الإبداعي القولي، الذي يمكن للسارد أن يبوح به إذا لبِس لبوسًا أدبيًا قشيبًا، يستسيغه القارئ ويستمتع به من قبيل أن الروح هي الأصل، أما الجسد فقابل للتغيير والتجميل، وقصة آرون الذي تمّ إخصاؤه ليصبح آرونداتي ويُباع للغورو فيديا، وفتوى الخميني التي تُجيز إجراء عمليات التغيير الجنسي، لكن حكومته كانت تعدم مئات المثليين إذا ضبطتهم متلبّسين بالجرم المشهود، والقذافي الذي كان يغتصب العذراوات، ويستعبد النساء جنسيًا، ولا يجد حرجًا في مواقعة بعض السياسيين، كي يفرض سيطرته الأبدية على الشعب والساسة في آن معًا، ومع ذلك فقد تحققت نبوءة فوزية، الضحية المُغتصبة التي كانت تردد دائمًا: «لكل شيء نهاية، ولكل ظالم عقاب». وفي الختام لابد من القول إن «انعتاق الرغبة» هي رواية يتآزر فيها الخيال الجامح مع الواقع الأسيان الذي يلذع القارئ ويفتح عينيه على أفق غريب لم يرهُ من قبل.
٭ كاتب عراقي