انهيارات «رام الله»: من « دار بطرس النجار»… إلى «مطعم بلدنا»

هذا العمل الملحمي «رام الله» مشغول بجهد لافت يرفعه إلى موقع مُعتبر في رف كلاسيكيات الرواية الفلسطينية. عباد يحيى كتبَ نصا سوف يُعرف ويُعرّف به سنين مقبلة. في قولبة درامية مُمتعة، بالغة الكثافة والحميمية، صاغ تاريخَ رام الله، وجانبا عريضا من تواريخ فلسطين، الاجتماعية والسياسية والثقافية منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى الألفية الراهنة.
حجم الرواية الضخم 736 صفحة، أهاب كثيرين من مطالعتها، وأخّر قراءتها لآخرين، أنا منهم، وربما قلل من انتشارها. عنوانها المختصر والمُبهم «رام الله» ربما ظلمها أيضا، إذ أحال إلى تداعيات كابية مرتبطة بمقر السلطة الفلسطينية لا تني تنثال على المخيلة فور ورود اسم المدينة العريقة. إخراج الغلاف والصورة التجريدية عليه، وكذا طريقة كتابة رام الله بشكل مُتداخل ربما عسّرت قراءته لغير الفلسطينيين، وأوحت بعمل رتيب وناعس. هذا من الخارج. في الداخل، يتلقفنا إتحاف حقيقي، تواريخ متلاحقة، سرد جذاب ولغة رشيقة، بشرٌ يفيضون حياة، مدن وقرى وفضاءات تزخر بصغير الأحداث وكبيرها. يُبدع يحيى في ترسيم المكان وتكثيف زمانه، وفي مساحاتهما الواسعة نحملق في تفاصيل وجوه الناس ودواخلهم، نكاد نلمس أرواحهم.
يقلب عباد يحيى تواريخ فلسطين والفلسطينيين بين زمنين مُتباعدين تفصلهما مئة وثلاثون سنة. يجري في الزمن الأول من نقطة البداية منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر، يجوس عقود الأتراك والإنكليز والصهاينة والحكم الأردني والسلطة الفلسطينية تباعا. في منتصف السيرورة الزمنية تتراكم المرارات سيرا نحو الكارثة التي نتوقعها، النكبة. يمسك الزمن الثاني، زمن رام الله الآن وهنا، ويسير به إلى الوراء في استرجاع مُتلاحق. تتكوم مرارات أخرى تُشابه وتُفارق سابقاتها، تتجسدُ شخوصاً وأحداثا، صموداً وهزيمة، مُفتتح حكايات وخواتيمها، تقول لنا أشياء كثيرة عن أرواح شاردة وجميلة تظل منشدّة بأمل، وربما ببلاهة نحو أفق ما، لكنه انشداد يرفض أن تكسره الأزمنة.
دراما «رام الله» محورها عائلة بطرس النجار الذي جاء جده إلى رام الله من صفد وكان يعمل نجارا. نعرف أن الجد كان قد قدم في الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى فلسطين من شرق الأردن ولدا صغيرا ومسلماً، مع شقيقيه الأكبر. في رحلتهم تلك تعرضوا لمقتلة بشعة من جنود أحمد باشا الجزار، ذُبح فيها شقيقاه، وأخرسَ هولُها لسانَ الصغير الذي هرب بأعجوبة. نجا الولد وتبناه نجار مسيحي في عكا، وأخذه إلى صفد، حيث رعته العائلة وأصبح واحدا منها. انتقل النجار، الأخرس، شابا يافعا إلى رام الله، بعد أن صار مسيحيا بحكم تبني العائلة وتربيتها له.

اختار عباد يحيى أن يُسكت الولد منذ البداية، الجد الأكبر لعائلة النجار. يثير هذا الإسكات الدرامي للجد، أو لأصل العائلة وأصل الحكاية، تأملا ابتدائيا مداره أن لا أحد في رام الله يعرف على وجه الدقة تاريخ عائلة النجار. من أين جاءوا، أصلهم وفصلهم، دينهم الأولي؟ تختلط الجذور، تذوب في بعضها، تتلوى حيوات البشر بعد ذلك على بعضها. كانوا مسلمين وبدواً، صاروا مسيحيين وحضرا. هل نُحمل النص ما لا يحتمل، أو يقصد إن قرأنا فيه نزوعاً نحو تجاوز ما كان وما صار في التاريخ، تجاوز سؤال أصول الناس، وماذا كانوا، وعوض ذلك تقديم ما عملوا وساهموا به (حرفة الجد كنجار، وما قدمه لرام الله)؟ المهم حاضر تماهيهم في المكان والزمان، لا الماضي الذي كانوه. أياً ما كان، تظل ثيمة إسكات تاريخ الجد لفتة إبداعية مفتوحة التأويلات والإحالات.

حكاية آل النجار، والرواية، هي حكاية البيت الأولي الذي بناه إبراهيم النجار الجد في المنطقة التي تُعرف اليوم برام الله القديمة. وعلى وجه مكاني دقيق، تقع الدار عند تقاطع شارع السهل مع شارع يافا، شريان المدينة التاريخي مع مدينة يافا، المُفضي إلى قلب المدينة، وصولاً إلى دوار المنارة، والمُتفرع يمينا نحو القدس. ظلت الدار تتوسع مع الزمن وتكاثر الأولاد والأحفاد. لما يتسلم كبارهم إدارة الدار، يُضيفون إليها غرفة أو أكثر، شرفة أو ساحة، أبواباً أو نوافذ. مع كل توسعة للدار ومع كل باب إضافي تنبسط عتبة جديدة، تفتح زمنا وتؤشر لحقبة كأنما تؤرخ لجيل جديد من آل النجار، ولرام الله وفلسطين. نلاحق في الرواية ظهور عتبات ثمان يدلف منها الراوي ويخرج بتبادل لا يحكمه ترتيب معين، يُبقي أزمنة الرواية مفتوحة مرنة ومتداخلة، تتباعد في التواريخ لكنها تلتقي في نقطة واحدة، بيت آل النجار في رام الله. العتبة الأولى هي دار النجار نفسه في أواخر القرن التاسع عشر، والأخيرة رام الله الآن وهنا.

في «رام الله» عباد يحيى مئات الأسماء الحقيقية للشخوص والأماكن، للشوارع والحارات، لعيون الماء والبساتين، للجوامع والكنائس، للمدارس والأوتيلات، وسواها. فيها تأريخ وجغرافية وسوسيولوجيا وثقافة وهويات مُتصارعة.

بيت النجار وعتباته ترميز معمق وكثيف للتاريخ الفلسطيني ومراحله وتحولاته ونكساته في الحقب الزمنية التي تغطيها الرواية. تتبدل حالات الأرض والناس والجمال والكفاح والاجتماع والثقافة والسياسة والهزائم وتغول الأجنبي وتلاعبه بمصائر فلسطين، كل تبدل ندلفُ اليه من واحدة من العتبات. ركضت فيها العقود، وعبرتها أجيال، عاصرت العثمانيين، الإنكليز، إسرائيل، والسلطة، أفندية، ثوار، لاجئون، أطفال، مبشرون، معلمون، منتفضون، محبطون، وغيرهم. يتناظر بيت النجار مع الأرض، والمدينة، وفلسطين كلها، ويلخص الحكاية – «اقتحمه جنود من أربع دول». تنداحُ في السرد بانوراما تاريخية متعددة الطبقات، ينمو فيها مجتمع الناس، تتعقد سياستهم واقتصادهم، تتوتر تقاليدهم مع جديدهم، تنضج نضالاتهم، ومعها خيانات بعضهم. في كل حقبة يهاجر شبابهم، طوعاً لضيق الحياة، أو قسرا لتواصل النكبات والنكسات. في رحلة آلامهم الطويلة تتكرر دروس تراوغ تعلمهم منها، فيُلدغون من جحورها تباعاً.

يُرفق عباد يحيى رسما معماريا لدار النجار، تظهر فيها الدار الجديدة التي بناها خليل في مفتتح سنوات حكم الإنكليز فوق القديمة التي بناها أبوه بطرس خلال سنوات الحكم التركي. كلاهما بُنيت زمن سيطرة الآخرين على الأرض والناس. يبدو البيت في كليته مكونا من طابقين مُنسجمين ظاهراً، لكنهما منفصلين جوهراً، زمن الأتراك وزمن الإنكليز. تتكامل الداران، الحقبتان، في الشكل الخارجي كأنهما سيرورة تاريخ متواصل. في العمق ثمة كثير يفصلهما، طابق الزمن الأول يتجمد، وطابق الزمن الجديد يتسع. الطابق الحديث، يركب فوق الطابق التقليدي القديم، عالياً ومستقرا لمن يراه من بعيد. علو الجديد واستقراره خادع وهش. تتأسسُ حقيقة على مداميك الطابق القديم ولا يصمد دونه.

عتبة أوسلو: دار النجار تتحول إلى «مطعم بلدنا»

«رام الله» الرواية هي صور رام الله المدينة، المتعددة والمتنافرة. يُختصر عديدها في صورتين: رام الله التحتا ورام الله بقية المدينة. رام الله التحتا، هي رام الله دار النجار المتجذرة في الأرض والهواء. تزدادُ الأولى أسطرة ونوستالجيا، فيما الثانية تغرق في الحيرة. كلما ابتعد الزمن وتعمق الماضي تتكثف الأسطورة، تتخلق حولها خيالات ومبالغات تنكأ حاضرا سمته البشاعة. عتبات دار النجار، وعلى ما فيها من مرارات وهزائم، تتمجد كأيقونات معبدْ. تصير أسطورة. آخر العتبات، رام الله اليوم، تزدحم فيها النذالات، تستعرض «انتقام العادي من الأسطوري» تشهد انهيار الرومانس المُحبب الذي انداح عتبة عتبة منذ زمن الأتراك. يتجسد الانتقام والانهيار في تحول دار النجار الغائرة في وجدان رام الله العتيقة والمُعتقة إلى مشروع ربحي، إلى مطعم. المُستثمر أراد التقاط لحظة التغيير الكبيرة بعد أوسلو وقيام السلطة في المدينة، وتكاثر مالها وشخوصها المتكرشة الجديدة. حمل المطعم الجديد اسم «بلدنا» مُخفيا هدف الربح والاستثمار خلف الاسم الحميمي. في العتبة المعاصرة ليس ثمة صعوبة في توقيع المعمار السردي والشخوصي في رموزه المكشوفة، على الواقع. قراء رام الله الرواية، ممن يعرفون رام الله المدينة، سوف يسقطون الأقنعة التي ألصقها عباد يحيى على الأسماء والأحداث والأماكن، وقصدَ أن يكون اللصق هشاً سهل القلع. في مطعم «بلدنا» وفي سيرورة تحويل دار النجار إلى مطعم، حدثت كارثة ما يمكن وصفه بـ»صدام العتبات».

هنا يرسم عباد يحيى واحدة من ذرى الرواية والنص بحبر المرارة. ندخل معه دار النجار، قبل قلبها إلى مطعم لا طعم له، ونمضي إلى الصالون الرئيسي، نتسمر أمام واجهته الكبيرة التي تحمل عشرات الصور لأفراد العائلة. صور غير ملونة أولاً، ثم أخرى ملونة مع تقدم الزمن والتصوير. الكبار والصغار، صورهم في مدارس الفرندز، أمام عتبات الدار، في الشرفة، في أمريكا، صور تخرج، وصور زواج، واحتفالات عيد الميلاد، صور هيلانة تضحك، خليل يركض، بطرس يأرغل متكئا، سالم، كاثرين، إيفلين (زوجات خليل وسالم). يسهب يحيى في وصف الصور في صفحة كاملة، نتماهى في تفاصيلها واحدة إثر أخرى، نتحسس وجوه ناسها، نشم رائحتهم، نسمع ضحكاتهم. تختزل هذه الصفحة وما فيها من وصف عناوين الرواية، وجانبا كبيرا من سيرة رام الله، تُعيد تكثيف تاريخ دار النجار وترسيمه أمامنا. إذا رجعنا عدة خطوات إلى الوراء ونظرنا إلى واجهة الصالون المطرزة بالصور، تتبدى جدارية كنعانية منقوش عليها تاريخ المكان بعرق الناس ودمهم وشقائهم وبهائهم وغربتهم وتشتت وجدانهم، ولاحقا تمزق هوياتهم. ثمة رغبة تتراكم عند القارئ للوثوب إلى داخل النص لحضن هذه الواجهة وحمايتها، ونصب سياج أمامها يدفع عنها الغدر الآتي سريعاً وباطشاً. كلما تكثف وصف عباد يحيى للواجهة، أحسسنا بالخطر، كأنه يحضرنا لمأساة مقبلة، ترافق بيع الدار كلها لمالك لا يفكر إلا في الربح. هذا ما تقوله العتبة السابعة لنا. ما أن تنهي كلامها هذا حتى ينسف قلوبنا عهرُ المال والسياسة: «وقف معلم المقاولات أمام الواجهة عدة ثوان، وبحركة آمرة من يده لأحد شغيلته اختفت الصور كلها. وحلت محلها صورة واحدة كبيرة في واجهة المطعم الجديد، صورة أبو عمار».
في «رام الله» عباد يحيى مئات الأسماء الحقيقية للشخوص والأماكن، للشوارع والحارات، لعيون الماء والبساتين، للجوامع والكنائس، للمدارس والأوتيلات، وسواها. فيها تأريخ وجغرافية وسوسيولوجيا وثقافة وهويات مُتصارعة. اشتغال مُذهل على نص حميمي مُتفرد سيتبوأ مكانة مهمة في النص الروائي الفلسطيني، يستحقها الآن وغدا.

كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية