تشهد الأسواق اللبنانية حالة من التخبط والفوضى، بعد التراجع غير المسبوق لسعر صرف الليرة أمام العملات الأجنبية، وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية والغذائية والأدوية يجعل اللبنانيين عاجزون عن تأمين احتياجاتهم المعيشية.
وقدرت إحصائيات الدوائر الرسمية اللبنانية عدد المقيمين في لبنان نحو 4.3 مليون نسمة.
أما نسبة الفقر فقدرتها تقارير منظمات حقوقية ومؤسسات إحصائية في بيروت بـ 55 في المئة من المقيمين أي نحو 2.365 مليون لبناني، منهم نسبة 25 في المئة دون خط الفقر أي 1.075 مليون وهؤلاء لا يكفي دخلهم لتوفير الكميات الكافية والصحية من الغذاء، و30 في المئة منهم فوق خط الفقر أي 1.290 مليون وهؤلاء يكفي دخلهم لتوفير الغداء ولكنهم يعانون من ظروف معيشية صعبة من السكن والملبس والتعليم وغيره، وترى أن السبب الرئيسي لتفاقم حالات الفقر في لبنان في الآونة الأخيرة هو انهيار العملة الوطنية أمام الأجنبية.
فقد وصل سعر صرف الدولار الأمريكي في أسواق بيروت إلى خمسين ألف ليرة لبنانية، وهذا الرقم لم يشهده لبنان في تاريخه المعاصر، ما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية ودفع التجار وأصحاب شركات ومؤسسات الاستيراد إلى رفع أسعار سلعهم، حتى الأدوية والمواد الغذائية منها، ودفع أيضا مؤسسات الدولة اللبنانية المعنية لرفع قيمة الضرائب المالية ورسوم الجمارك، ورسوم المعاملات الإدارية المختلفة وفي مقدمتها التصديقات، جوازات سفر، بطاقات الهوية، ووثائق الولادة والزواج، ورسوم ميكانيك السيارات السنوية والرسوم العقارية ورسوم الكهرباء الشهرية وأسعار البنزين والغاز والمازوت.
وتجاوزت مخاطر انهيار العملة الوطنية وارتفاع أسعار السلع وتكاليف الحياة اليومية إلى عدم قدرة التجار على استيراد الأدوية والبضائع الأجنبية بسبب ارتفاع أسعارها نسبة لسعر صرف الليرة اللبنانية أمام العملات الأجنبية، حيث «أدّت الأزمة الاقتصاديّة التي يعيشها لبنان إلى تراجع في استيراد العديد من السلع والبضائع مع تراجع في استهلاكها، وصولاً إلى الدّواء الّذي يطال صحّة اللّبنانيّين وسلامتهم».
إزاء ارتفاع نسبة الاستيراد في العام 2022 إلى مستوى متقارب مع نسبته في الأعوام التي سبقت الأزمة، نجد أنّ الدّواء قد سجّل تراجعاً ملحوظاً، فقد وصلت قيمة استيراده إلى 343.2 مليون دولار هذا العام بعد أن كانت 964.6 مليون دولار في العام 2018، أي مع تراجع مقداره 621.4 مليون دولار ما نسبته 64.4 في المئة.
ومع انهيار سعر صرف الليرة وارتفاع الأسعار، ارتفعت تلقائياً كلفة المعيشة، حيث أجرت «الدولية للمعلومات» دراسة حول الكلفة الأدنى لمعيشة أسرة لبنانية مؤلفة من 4 أفراد مع الأخذ بعين الاعتبار الفروقات بين السكن في القرية أو المدينة، وبين التملّك والاستئجار. وخلصت إلى أن كلفة المعيشة تتراوح بين 20 و26 مليون ليرة شهريًا بالحدّ الأدنى، وبمتوسط 23 مليون ليرة شهريًا.
وأشارت «الدولية للمعلومات» إلى أن الحد الأدنى لإيجار المنزل في القرية اللبنانية هو نحو 2 مليون ليرة ويصل في المدينة إلى ما بين 5 – 10 ملايين ليرة وربما أكثر تبعاً للمنطقة ووضعية ومساحة المسكن. (علماً أن الأسعار أصبحت تحدد الآن بالدولار الأمريكي النقدي) هذا من دون احتساب كلفة المياه التي لا تصل إلى المنازل في فصلي الصيف والخريف.
ولان كهرباء الدولة مقطوعة بشكل كامل إلا نادراً (ساعة واحدة كل 24 ساعة) فيعتمد اللبنانيون على المولدات الخاصة والكلفة الأدنى شهريا قد تصل إلى أكثر من 8 ملايين ليرة.
أما الحد الأدنى من الطعام لو تناولت الأسرة طيلة الشهر البيض بمعدل 6 بيضات للفرد يومياً تصل إلى 4 مليون ليرة شهرياً إضافة إلى الخبز بكلفة 600 ألف ليرة وجرة الغاز بكلفة أكثر من 450 ألفا.
وقد أدى كل ذلك إلى تفاقم حالات الفقر والعوز، وتفشي ظاهرة التسول، وارتفاع نسبة الجرائم والسرقات، والخطف، وتصاعد عدد المهاجرين وخاصة عبر قوارب الموت في البحار.
حيث يشهد، لبنان ارتفاعًا ملحوظًا في عدد حالات الخطف، الأمر الذي يُعدّ نتيجة طبيعية للشلل والانحلال في الدولة اللبنانية، مع ما يرافقهما من ارتفاع في معدّلات الفقر والعوز وتراجع في المداخيل. وصل عدد حالات الخطف في العام 2014 إلى 19 جريمة، مسجِّلاً، في السنوات التي تلته، تراجعاً ملحوظًا، ليرتفع مجدّدًا في العام 2019 مع تسجيل 16 جريمة خطف، ثم في العام 2020 مع 47 جريمة، ليتدنّى في العام 2021 ثم يرتفع إلى حدّ كبير في العام 2022 مع تسجيل 44 جريمة حتى النصف الثاني من العام 2022.
وحول تأثير الانهيار المالي والأزمة الاقتصادية على وضع الأطفال في لبنان يسلّط تقرير جديد صادر عن اليونيسف بعنوان «الطفولة المحرومة» الضوء على واقع مؤلم تعاني منه جميع الأسر على حدٍّ سواء، في مختلف أنحاء لبنان، وأدّى إلى سقوط البلاد والعائلات في براثن الفقر، ما أثر بشدّة على صحّة الأطفال ورفاههم وتعليمهم وتسبب بزعزعة العلاقات الأسرية.
يقول ممثل اليونيسف في لبنان إدوارد بيجبيدر «إلى جانب تأثير الأزمات المباشر على رفاهية الأطفال، يمكن أن يكون لفقر الأطفال عواقب تدوم مدى الحياة، ما يؤثر على قدرتهم على تحقيق إمكاناتهم الكاملة ويؤدي الى استمرار مكوثهم في دوامة الفقر والحرمان».
أصبح اللبنانيون عاجزون عن تأمين حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية وسط انهيار العملة الوطنية والأزمة الاقتصادية المتفاقمة، وهذا يعني أن الأسر ذات الدخل المحدود تتحمل العبء الأكبر الناتج عن الانهيار المالي، حيث أدى تراجع النشاط الاقتصادي، وعدم الاستقرار السياسي، وارتفاع تكاليف المعيشة إلى تفاقم أزمة لبنان الاقتصادية، وأكد المستويات المقلقة للفقر وانعدام الأمن الغذائي في لبنان.
وبرأي «هيومن رايتس ووتش» فإن الأزمة في لبنان دفعت بملايين الأشخاص من مواطنين ولاجئين إلى براثن الفقر واضطروا إلى تقليص كميات طعامهم.
وأضافت أن الحكومة لم تتخذ تدابير مناسبة بعد ثلاث سنوات من الأزمة الاقتصادية.
وقالت المنظمة إن نظام الدعم الحالي يصل إلى نسبة صغيرة للغاية من ذوي الدخل المحدود، تاركا الغالبية بدون أي حماية. وأكدت أن المساعدات التي تقدم إلى اللبنانيين واللاجئين لا تكفي لتجاوز أزماتهم المعيشية لإنها تستهدف بشكل ضيق للغاية الأسر التي تعيش في فقر مدقع، ما يترك شرائح كبيرة من السكان غير المؤهلين معرضين للجوع.
ونوهت رايتس ووتش إلى أن قرابة 70 في المئة من الأسر في لبنان واجهوا صعوبة في تغطية نفقاتهم أو تأخروا دائما عن دفع النفقات الأساسية في العام السابق.
ويبدو أن التخبط في الأسواق اللبنانية وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية، وارتفاع رسوم الضرائب، سيستمر طويلا مع استمرار الأزمة السياسية وانغلاق أفق الحلول في المدى المنظور، فانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة والمصالحة الجادة بين الأفرقاء اللبنانيين، لا يبدو أنها ستحصل في وقت قريب، ذلك لأن الأوضاع بين الفرقاء المحليين والاقليميين والدوليين لم تنضج بعد لإنقاذ لبنان من أزمته، أو مد يد العون له للخروج من هذا الانهيار المالي غير المسبوق في تاريخه، وهذا ما دفع الخبراء الاقتصاديين للتحذير من أوضاع لبنانية أشد قسوة في الآتي من الأيام.