انهيار سايكس بيكو واعادة تشكيل المنطقة: أنلدغ من جحر مرتين؟
19 - يونيو - 2013
حجم الخط
0
تمر سورية بأصعب لحظاتها منذ الملكية الأولى في عام 1918، وحتى الآن. فإلى جانب البعد السياسي والعسكري والانساني للثورة السورية، وما جره رد النظام القاتل من ويلات، يخرج إلينا اليوم من يتحدث عن تمجيد المكونات ‘الفسيفسائية’ للشعب السوري ولشعوب المنطقة، في حين أن هذه الدعوات ليست جديدة فقد أضحت متماشية مع الكثير من المؤشرات التي تظهر ما يدبر لبلادنا في هذا الوقت البالغ التعقيد، فإن تلك الدعوات أصبحت أكثر كثافة وصفاقة. فقد أصبحنا فجأة نسمع التحليلات والآراء، من أبناء قومنا ومن الغرباء، عن عدم امكانية عودة عقارب الساعة الى الوراء، وبأن سورية التي عشناها وألفناها أصبحت جزءا من الماضي متذرعين بالثورة حيناً وبالنظام حيناً وبضرورة القضاء على مخلفات الاستعمار والامبريالية التي رسمت حدود بلادنا أحياناً أخرى. في خضم الثورة السورية وتداعياتها الخطيرة على المنطقة، وفي عز استدعاء العصبيات الطائفية والمذهبية من قبل النظام السوري ليدافع عن وجود مجرميه على رأس السلطة، تخرج الينا أصوات من كل حدب وصوب ترى أن المرحلة القادمة هي مرحلة زوال الشكل الحالي لدول المنطقة. ترى تلك الاصوات أن سايكس ـ بيكو انتهت وأنه حان الوقت لتجاوزها نحو تشكيلات جديدة أقرب الى الواقع المعاش حالياً الذي أفرزته الثورات. والجدير بالمتابعة تتبع ظهور مبادئ جديدة في دراسات العلاقات الدولية والقانون الدولي تختلط فيها حماية الأقليات بتعزيز الانتماءات الضيقة لعدد من المكونات داخل دول المنطقة. لقد تشكلت دول المنطقة بعيد الحرب العالمية الأولى كجزء من تسوية معقدة لتقسيم واقتسام النفوذ على الأقاليم التي كانت تتبع للدولة العثمانية المهزومة مع حليفتها ألمانيا، في الحرب التي شكلت وجه أوروبا والعالم. وكالعادة لم يكن لنا نحن العرب سكان هذا الجزء من العالم القوة الكافية لفرض وجهة النظر المعبرة عن مصالحنا من خلال القوى المادية العسكرية، أو حتى الدبلوماسية للتأثير على قرارات الدول الكبرى في لعبتها المصيرية. وبالمقابل لم يتسم الوعي الجماهيري بالقصور أبداً، بل كانت الجماهير العربية ونخبها المتعلمة والسياسية ترى بوضوح خطورة المسيرة الغربية في تقسيم البلاد العربية على غير ما حلموا وحلم الشريف حسين به، في مراسلاته الشهيرة مع ثعالب السياسية البريطانية. وكان لتأثير تسريب اتفاقية سايكس ـ بيكو التي وضعت التقسيم المبدأي لبلاد الشرق العربي عقب الثورة البلشفية الروسية أثر مهم في توضيح النوايا الاستعمارية الأوروبية، خاصة لجهة ربط البلاد بالأنظمة المنبثقة عن عهد عصبة الأمم. وخرجت حدود سورية الحالية من رحم الاتفاقيات والتفاهمات الدولية، لكنها استمرت في التكون خلال العهود اللاحقة. وغني عن القول بأن سورية الوليدة آنذاك كانت سورية بنسخة مختصرة، اذ تم اقتطاع الأطراف التي شكلت امتدادات عضوية للأقضية والأقاليم التابعة للمدن الرئيسية فيها، حسب التقسيم الاداري العثماني، من امتدادات سهل حوران في الجنوب الى مناطق الشمال والشرق اللبناني حالياً. وعلى الرغم من فشل دول المنطقة بالكامل في تبني هوية وطنية واضحة تعبر عن الدول التي انتجتها تلك الاتفاقية البغيضة، الا أن الزمن كان كفيلاً بتجذير الدول بشكلها الحالي. فنسي الدمشقي أن البيروتي كان الأقرب جغرافياً واجتماعياً له، ونسي أبناء دير الزور أن الأنبار كانت دائما أقرب اليهم من حلب التي كانت تتواصل مع الموصل أكثر من المدن السورية، في فترات سابقة ممتدة عبر الزمن. ومع مرور الوقت أصبح لكل دولة من دول المنطقة لونها الخاص وأحزابها وتفكيرها السياسي والمصلحي والاجتماعي، وإن لم يخل الأمر من تداخلات شعبية واقتصادية وسياسية أخذت بالصعود والهبوط تبعاً للأحداث الجارية في المنطقة، خاصة تلك المرتبطة بظهور الكيان الصهيوني المحتل في فلسطين. ومن ناحية أخرى زاد تراجع المشروع القومي العربي خلال القرن الماضي، في الشعور الطاغي بضرورة البحث عن هوية بديلة أو موازية، وعن أساس واقعي لشكل التكوين السياسي لدول المنطقة. وزاد تخلي النخب والكثير من الأحزاب حتى الحاكمة منها لبعض الدول العربية عن المصطلحات التي استخدمتها لفترة طويلة من الزمن، والتي كانت دائماً ترفض الأساس السياسي لحدود سايكس ـ بيكو، باعتبارها نتيجة الاستعمار والهيمنة الامبريالية، فصرت ترى استعمال اسم الدولة كالمملكة أو الجمهورية محل مصطلح القطر ،الذي استعمل للدلالة على أن هذه الدولة العربية أو تلك جزء من الوطن العربي بمفهومه الايديولوجي، وأن ليس لها أن تكون دولة مستقلة تمام الاستقلال بالمعنى السياسي والقانوني للكلمة. وأخذت دول أخرى باستعمال شعارات مباشرة تحاول التأطير لهوية محلية كاستعمال مصطلح ‘دولتنا أولاً’، مع سياسات لاعادة ولاءات ما قبل الدولة بالظهور من جديد، تتبع القبيلة والمذهب والمنطقة والأصل الاثني وغيرها. لقد عانينا نحن أبناء المنطقة من شكل الدول الحالية ومن الفلسفة وراء تشكيل تلك الدول، بما في ذلك التداخل المعروف بين شكل الدول في المنطقة، كما هي اليوم وبين ايجاد وطن لليهود على أرضنا في فلسطين وترحيل أبناء فلسطين الى وطن أو أوطان بديلة. ونعرف تمام المعرفة أن الكثير من أدوات السياسات الغربية في المنطقة متمازجة مع مصالح ضيقة لمجموعات محددة منا. وفي حين أن مصلحتنا الاستراتيجية، نحن شعوب المنطقة، في زوال منتجات سايكس بيكو على المدى البعيد لا شك فيها، فالحذر الحذر من خطورة هذه الدعوات اليوم، خاصة في وقت ذروة الأزمة وفي عز الاستقطاب الطائفي والعشائري والمناطقي والاثني؟ وعندما يتحدث أحدهم عن قرب انهيار سايكس ـ بيكو فهذا لا يخرج عن أحد احتمالين: أولهما أنه يريد الخير لهذا الجزء من العالم، وأن شكل التنظيم الاقليمي الذي خرجت به سايكس بيكو لم يكن ولم يعد اطاراً كافياً للتعبير عن المصالح العليا لشعوب المنطقة، ويبشر باطار أوسع تنضم فيه الدول الحالية بعضها الى بعض، حسب مقتضيات التاريخ والعقل والمصلحة، فتصبح دولاً أكبر وأقوى وأكثر انسجاماً مع ذاتها ومع المحيط الاقليمي أو العالمي. وثاني الاحتمالات أنه يريد أن يرى المكونات الداخلية لكل دولة وقد تضخمت ودعمت بالمال والقوة السياسية والعسكرية حتى أضحت دولاً بحد ذاتها، اما من خلال فيدراليات هشة أو عن طريق الانفصال الكامل عن الدول الأم. وفي ضوء ما تشهده المنطقة الآن جراء الثورة السورية والهجمة الايرانية لابقاء النظام على رأس السلطة، وكل ما تخلل ذلك من تخويف لبعض الأقليات وانتهازية لقوى أخرى، لا أرى أبداً أن الاحتمال الأول هو المطروح. انهم يريدون التعامل في المستقبل القريب مع مكونات ما قبل الدولة في منطقتنا، لأن هذا أسهل لهم… يريدون تقسيم المقسم وتفتيت المفتت ويتحدثون عن انهيار المنظومة القائمة التي صنعوها هم أيضاً عندما كان ذلك ملائماً لمصالحهم، لكن حذار أن نظن أنهم يريدون ذلك خدمة لنا… إنهم يدفعون بهذا الاتجاه لصالح مشروعهم، فأين مشروعنا الوطني المقابل؟ علينا أن نعي بأن قيامة سورية لا تأتي لا بالانتظار ولا بالتسليم لما يريده الآخرون. علينا أن ننهض بمشروعنا الوطني، فلن تعود سوريانا التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا لنا بأفضل مما كانت إلا به، وأساس مشروعنا الوطني أننا لن نتخلى عن سورية الحالية الا بسورية جديدة أكبر وأعظم.