اسلوب جديد اختاره تونسيون في الايام الاخيرة للتعبير عن سخطهم وعدم رضاهم عن اداء الائتلاف الثلاثي الحاكم، وذلك باللجوء الى كتابة عبارات سياسية مناوئة على ورق العملة. ليس معروفا حتى الان من يقف وراء الفكرة، لكن الامر اثار ردة فعل سريعة من جانب البنك المركزي، ودفعه لاصدار بيان يدعو فيه المواطنين الى الكف عن كتابة بعض الشعارات على الاوراق النقدية من فئة عشرة وعشرين دينارا، واستعمالها وسيلة للتعبير عن توجهاتهم ومواقفهم السياسية. قبل ان يضيف بان العملة، ومنها الاوراق النقدية ‘تمثل احد مقومات المواطنة التي وجب على الجميع المحافظة عليها والامتناع عن الاساءة اليها’. لم يقتصر الامر على المعارضين، فقد لجأ البعض من انصار الشرعية الى نفس الاسلوب، اذ وردت على بعض مواقع التواصل الاجتماعي صور لاوراق نقدية من فئة عشرين وخمسين دينارا تحمل شعارات مضادة مثل ‘اللهم انصر النهضة على دعاة الفتنة والانقلاب’. في المشهد قدر من السريالية، اذ في الوقت الذي يزداد فيه تحصيل لقمة العيش صعوبة ووعورة لدى شرائح واسعة من الناس، في ظل ما يشهده الاقتصاد من صعوبات باتت معلومة للجميع، يركز اخرون كامل جهدهم ووقتهم للضخ بالمجان، وعلى امتداد العام، لمشاعر الاحباط والقنوط ورفعها الى مستويات عالية غير مسبوقة، جعلت تونس تقفز وفقا لصحيفة محلية الى صدارة الترتيب العالمي في حالات الاصابة بالاكتئاب. اصابع الاتهـــــام في ما تعيشــــه البلاد من تعثر يوشك على التحول الى كارثة مالية ـ بحسب توقعات محافظ البنك المركزي، في صورة ما لم يتحقق الانفراج السياسي المطلوب ـ توجه على الفور وباستمرار لحزب حركة النهضة الشريك الاكبر في حكومة الائتلاف. لكن جوهر المشكل يكمن في ان جانبا كبيرا من حالة التخبط يرجع بالاساس الى سوء ترتيب لاولويات المرحلة، جعل الحكومة، لنقص في الخبرة وصعوبة في فتح الملفات، لا تعرف من اين تبدأ ولا الى أين تسير، ومن الواضح ان قسطا مهما في ذلك يعود الى ان التركيبة الائتلافية للحكم، بقدر ما افادت الاسلاميين في كسب نقاط سياسية ثمينة، من خلال انفتاحهم على تيارات توصف بالعلمانية وعدم انفرادهم بادارة الدولة في مثل هذا الظرف الانتقالي، الا انها ارغمتهم في المقابل على الرضوخ لابتزاز الشركاء قبل الخصوم. فقد ادى ذلك الى خروج الملف المالي والاقتصادي بدرجة اقل من بين ايديهم، بل ان مفاصل حيوية مثل الجباية والجمارك ظلت الى الان بعيدة، لا فقط عن تسييرهم على اعتبار انتماء وزير المالية لحزب التكتل، بل ايضا عن اي تدخل او توجيه من جانبهم، على الرغم من تأثيرها الواضح على موارد الدولة. عدم تحريك ملف رجال الاعمال الذين علقت بهم في عهد الرئيس المخلوع شبهات فساد، وبقاؤه على حاله من دون حسم، يفضي الى خيار من اثنين، إما محاكمتهم او رفع تحجير السفر عنهم، بما قد يسمح للمناطق الاقل نموا بالخصوص من الاستفادة من استثماراتهم ومشاريعهــم، ينضاف الى التمدد الكثيف لامبراطوريات مالية مجهولة تتــــوسع دوائر نفــــوذها كل يوم، ولا احد يملك جوابا مقتعا عن مصادرها او نسب اسهامها في الازمة، كل ذلك وغيره يجعل الامكانات والبدائل المتاحة تتقلص بشكل ملحوظ، خصوصا مع ما يعرفه ملف الاموال المنهوبة من تعقــــيد وركود وعدم جدية دول الجوار والشريك الاوروبي بالتحديد في الوفاء بوعود الدعم المالي. لا تنتفي مع ذلك مسؤوليات الفريق الحاكم، وعلى رأسه حركة النهضة، فقد ادى التذبذب في اتخاذ القرارات واحيانا غض الطرف والمهادنة الى ان يدفع فاتورة باهظة الثمن من رصيد الثقة الذي حازه في الانتخابات الاخيرة، على الرغم من ان استطلاعات الرأي لا تزال تمنحه مراتب متقدمة في نوايا التصويت، في حال ما اذا جرت انتخابات اخرى في القريب. وفيما تستعر معركة كسر عظم مفتوحة بين الاسلاميين ومناوئيهم للوصول الى صيغة تفضي الى اقتسام السلطة، يبقى السواد الاعظم من الناس مأخوذا ببريق تلك الاوراق النقدية، وجاذبيتها بقطع النظر عما يكتبه البعض فوقها من شعارات لا يبدو انها بقيت الان على القائمة الملحة والمستعجلة للاولويات.