كان لسور بيروت مجموعة أبواب كما يقول المؤرخون، وكانت أبوابها تقفل ليلاً وتفتح فجراً.
لأبواب المدينة أسماء لا يزال بعضها يرنّ في الذاكرة: باب السلسلة، باب الدباغة، وباب السراي، وباب أبو النصر، وباب الدركة، وباب يعقوب، وباب إدريس.
تعلمت حكاية الأبواب هذه في بداياتي الأدبية، عندما اتصل بي سهيل إدريس ليبلغني بأنه قرر نشر روايتي الأولى.
كنت شاباً في الرابعة والعشرين، وكنت أرى في الخطاب الثوري الذي انتميت إليه عبر المقاومة الفلسطينية، باباً للحرية. ولم أكن معنياً بفكرة الالتزام الأدبي وبالواقعية، بل كنت أرى في الأدب تجربة إنسانية تأخذني إلى رفض كل أشكال السلطة، ومدخلاً لاستكشاف دلالات المسكوت عنه، والتجريب في اللغة والأشكال.
لكن هذا الرفض لم يغير من رهبة تلك اللحظة، حين وجدتني في مكاتب «دار الآداب» أقف أمام من كان يبدو لي أنه جان بول سارتر العرب.
هذه الرهبة سرعان ما قام سهيل إدريس بتبديدها بظرفه ولياقته وتواضعه. ومن ذلك المكتب المتواضع في مبنى العازارية الذي يقع بين ساحتي الشهداء ورياض الصلح، بدأت صداقتي المديدة مع هذا الرجل.
أذكر أننا كنا نمشي معاً في وسط البلد، حين جلسنا في مقهى كان يدعى «الأوتوماتيك» يومها سألني سهيل إدريس إذا كنت أعرف اسم المنطقة حيث نجلس.
«طبعاً» أجبته «نحن في باب إدريس».
أخذ الرجل شفة من فنجان القهوة، وهز رأسه كأنه يريد أن يقول، لكنه لم يقل.
«وما علاقتك بالمكان»؟ سألت.
«هذا الباب سمي على اسم العائلة، لأن أجدادي كانوا يحملون مفتاحه».
«ولماذا لم تختر أن تكون مكاتب الآداب هنا وليس في العازارية»؟
لا أتذكر جوابه، فالذاكرة عشوائية ولا يمكن الركون إليها، لكنني أستطيع أن أتخيل الآن حواراً طويلاً حول الأدارسة الذين هاجروا من المغرب إلى بيروت في طريق عودتهم من الحج، ثم تولوا حراسة أحد أبواب المدينة.
أبواب المدينة العتيقة انهارت مع سورها، ولم يبق من سور بيروت القديم سوى اسم منطقة «عالسور» التي يلفظها البيارتة «عالصور» حسب لهجتهم التي تقوم بتثقيل الأحرف.
لم أكتشف دلالات أن يكون هناك باب يحمل اسم باب إدريس، إلا مع انفجار الحرب الأهلية ودخول بيروت في دوامة الحروب والاجتياحات، فتشلعت مفاصلها ولم يبق ما يحميها سوى أبواب مصنوعة من الكلمات.
«الآداب» هي أحد أبواب بيروت، فبيروت استبدلت أبوابها القديمة بأبواب جديدة مفتوحة على الأفق. لم تكن الأبواب الجديدة مقفلة، ولم يكن حراسها يحملون المفاتيح، كانوا يحملون الأقلام ويسافرون مع الكلمات إلى عوالم جديدة.
لكن هذه الأبواب تداعت واحداً بعد الآخر، وكانت «مجلة الطريق» آخر تلك الأبواب التي اختفت. غير أن باب إدريس أو «باب الآداب» بقي مفتوحاً، وبقي ظل سهيل إدريس حاضراً كي يعلن أن بيروت لا تحيا سوى بالكلمة الحرة.
في هذا السياق يأتي الدور الذي لعبه سماح إدريس وشقيقته رنا، بعد غياب والدهما. هو في المجلة والعمل المعجمي والكتابة، وهي في الدار، كي يبقى لبيروت ذلك الباب الذي يمنع عنها الاختناق.
عرفت سماح صغيراً، وعرفته شاباً يافعاً ورجلاً ورئيساً للتحرير. وكانت علاقتي بالمكان الجديد الذي انتقلت إليه «الآداب» في ساقية الجنزير، تشبه علاقتي بالمكان القديم. ففي المكانين رأيت كيف «تحترق الأصابع» حسب عنوان رواية لسهيل إدريس، وشهدت على التجدد والانفتاح والانغراس عميقاً في الفكرة العربية.
ما جمعني بسماح ليس ذكرى والده فقط، بل فكرة فلسطين. التباينات في الأسلوب، أو في المقتربات السياسية والفكرية، لم تغير شيئاً من قاعدة الانتماء إلى فلسطين. ففلسطين تشكّل مقياس الموقف الأخلاقي ليس في العالم العربي فقط، بل في العالم بأسره. وكل محاولة لطمس معالمها وإزاحتها عن الاهتمام هي إيغال في الاستسلام للبربرية والاستبداد.
بل أكاد أقول إن فلسطين هي مقترب أدبي، فمأساتها صارت جزءاً من مآسينا، وألم المنفى الفلسطيني تحول إلى ألم منافي الإنسان في هذا الزمن النيوليبرالي المتوحش. هذا الألم يحاصرنا بالتطبيع والتتبيع وتحالف الجيوش والعروش الذي يريد تدمير وجودنا كشعوب وأفراد، وفرض هيمنة خطاب عنصري صهيوني يزوّر التاريخ والحاضر.
هناك موجة سادت في الثقافة العربية، وخصوصاً بعد شتاء الاستبداد الذي جاء بعد انحسار الربيع العربي، اسمها التخلي عن فلسطين، بحجة أن قضية فلسطين كانت ستاراً اختبأ خلفه المستبدون العرب.
هذه الحجة تهاوت وتتهاوى اليوم، لأننا نعيش لحظة الحقيقة، حيث تخلى الاستبداد عن خطابه القديم، وصار اليوم صدى للمشروع التطبيعي- التتبيعي المدمر، من انقلابيي السودان إلى حفتر ليبيا.
وما لم ينكشف بعد سيكشف عن وجهه قريباً، فاللعبة انتهت.
نحن نعيش في أعماق المأساة. ففلسطين الوحيدة والمحتلة والتي تتعرض للدمار من أعدائها والمتسلطين عليها في آن معاً، هي إحدى علامات تمسكنا بحقنا في الحياة.
ليس مستغرباً أن تكون بيروت بما تبقى لها من أبواب الثقافة، أحد وجوه فلسطين.
بيروت المحاصرة والمدمرة والتي تساق إلى الإعدام، هي اسم آخر لفلسطين ولكل الألم العربي.
هذه بيروت وهؤلاء هم حراس بابها.
وداعاً سماح، قتلك السرطان، لكنك سوف تبقى مقاتلاً، من خلف حجاب الموت، كي لا ينجح سرطان الاحتلال والانحطاط في قتل أرواحنا.
” نحن نعيش في أعماق المأساة. ففلسطين الوحيدة والمحتلة والتي تتعرض للدمار من أعدائها والمتسلطين عليها في آن معاً، ” إهـ
هناك المتآمرين عليها والمطبعين من صهاينة العرب!
لا بارك الله في من يخذل فلسطين من أجل كرسيه!! ولا حول ولا قوة الا بالله
جميل جدا ومؤثر
تحيه من الاعماق للاستاذ الياس صاحب الفكر الحر على هذا المقال
ذكرتنا بايام الزمن الجميل.
بلفعل كان زمن جميل كما قال الاخ هاشم من بروكسل
في عام ١٩٧٠ قام الجيش اللبناني بالتصدي لثلاث عمليات قام بها الجيش الاسرائيلي في جنوب لبنان وبعد هذه المعركة غنى عبد الحليم حافظ اغنية لمساندة الجيش اللبناني ،
طاير طاير طاير على جناح الحمام
جايب تحية تحية وسلام
من كل الأمة العربية…. لوقفة لبنان الأبية يا سلام
يا سلام يا يا يا سلام
يا سلام… الأرز كان نايم في أحضان الصباح
والجبل عالي عالي…. بيضحك للرياح
والسهل كان هادي هادي….. ما يحلم بالجراح
صرخت صبية مِ الجنوب الغدر نازل عَ الدروب
وقفوا الرجال زي الجبال سمع الصباح صوت السلاح
طاير طاير طاير على جناح الحمام
جايب تحية تحية وسلام
من كل الأمة العربية…. لوحدة لبنان الأبية…. يا سلام
يا سلام على لبنان
يا سلام عَ الشجر صوت البلابل زي أصوات البارود
يا سلام عَ الجبل في الأرض أغصانه مدافع عَ الحدود
في السهول السنابل والورود صبحت جنود
يا سلام في السهول السنابل والورود صبحت جنود
يا سلام على لبنان
شعب وجيش صامدين مع أبطالنا العائدين
يا سلام على لبنان آه يا سلام على لبنان