تونس-“القدس العربي”: باجة هي واحدة من أهم مدن الشمال الغربي في تونس، وهي عاصمة لولايتها التي تضم مدنا وقرى منها مجاز الباب وتستور وتبرسق ونفزة وتيبار وعمدون وغيرها. وتعتبر باجة ومحيطها مصدرا هاما للغذاء في تونس بالنظر إلى خصوبة الأراضي الزراعية وأهمية سقوط الأمطار فيها، وكثافة الإنتاج من مختلف أصناف المنتوجات الزراعية، وخصوصا الكبرى منها حتى جرت تسميتها بلد “المندرة والصابة”.
فمن يذكر الفلاحة والأمن الغذائي في تونس تتبادر إلى ذهنه مباشرة باجة في المقام الأول، ثم تأتي ولايات فلاحية أخرى هامة أيضا على صعيد الإنتاج، منها من هي في محيط ولاية باجة وتعتبر امتدادا لها مثل جندوبة والكاف وبنزرت وسليانة. وبالتالي فباجة هي مقصد للتونسيين وغيرهم للتنعم بالغذاء الصحي ذي الجودة العالية من المنتج إلى المستهلك سواء تعلق الأمر بالخضر والغلال والحبوب، أو بالحليب والأجبان والزبد والسمن والعسل، وحتى زيت الزيتون الذي من المفروض أنه من إنتاج ولايات أخرى متوفر في باجة وإن بكميات محدودة.
تقع المدينة على بعد مئة كيلومتر تقريبا غرب العاصمة التونسية على الطريق التي تربط تونس بالجزائر والتي تعتبر جزءا من الطريق المغاربية التي ما زال قسطها الأخير الذي سيربط الدولتين لم ينجز بعد من الجهتين. وتقع في منطقة تعتبر أراضيها من أخصب الأراضي في تونس وهي منطقة الشمال الغربي التي تضم إلى جانب ولاية باجة ولايات جندوبة والكاف وسليانة.
عراقة تاريخية
عرفت باجة في العهد الروماني باسم “فاغا” وهي تحريف لاسم فينيقي بوني هو “فاكا” باعتبار أن من أسسها بداية هم الفينيقيون الذين ركزوا بمعية الأمازيغ ما يعرف بـ”الحضارة البونية” وكانت أهم مدنها قرطاج، التي خضع لها الجميع. وقد ظهر اسم باجة في عصر الإسلام، فعرفت باسم “باجة القمح” لسبب وجود مدن أخرى في تونس وخارجها تحمل هذا الاسم ولعل منها باجة القديمة التي تقع قرب مدينة منوبة التونسية وباجة البرتغال.
خضعت المدينة شأنها شأن باقي مدن البلاد إلى الوندال والبيزنطيين بعد سقوط قرطاج وبعد انهيار إمبراطورية الرومان إلى أن جاء المسلمون من جزيرة العرب وأخضعوا البلاد لسلطانهم سواء تعلق الأمر ببني أمية أم بني العباس. وفي عصر هارون الرشيد استقل بنو الأغلب بحكم القيروان وكانت باجة ضمن مناطق نفوذهم، ومساهمتها كانت فاعلة في اقتصاد المملكة الناشئة لبني الأغلب واستمر الحال كذلك مع أسرتي الفاطميين وورثتهم الصنهاجيون.
وتعرضت باجة إلى السلب والنهب والتخريب والسطو على أراضيها الفلاحية شأنها شأن أغلب المدن التونسية مع غزوات بني هلال القادمين من جزيرة العرب وجنوب مصر والذين أرسلهم الفاطميون من القاهرة انتقاما من الصنهاجيين الذين استقلوا بحكم القيروان بعد رحيل الفاطميين. وكانت باجة ومدن الشمال الغربي من المناطق التي تسيل لعاب الغزاة الجدد الباحثين عن المرعى الخصب والمياه العذبة التي كانوا يفتقدونها في مواطنهم الأصلية.
وخضعت لاحقا لحكم الموحدين ثم الحفصيين الذين تمكن الإسبان في عهدهم من احتلال مناطق عديدة في تونس الأمر الذي استدعى تدخل العثمانيين في إطار صراع عثماني اسباني للهيمنة على البحر الأبيض المتوسط. ولعل ما ميز الحقبة العثمانية في باجة هو الازدهار اللافت للعمارة حيث تصارع إنكشارية تونس مع نظرائهم في الجزائر وكانت باجة حصنا دفاعيا هاما كثيرا ما حمى تونس في هذا الصراع الذي لا ناقة ولا جمل للشعبين التونسي والجزائري فيه.
وكان أهالي الشمالي الغربي خط الدفاع الأول عن تونس في وجه الاستعمار الفرنسي الذي جاء من الجزائر سنة 1881 إلا أن الخلل في موازين القوى جعل الجيوش الفرنسية الغازية تحكم قبضتها على مدن الشمال الغربي ومنها باجة وتتقدم نحو العاصمة لمحاصرة القصر الملكي في باردو. وأبرم ملك البلاد معاهدة عرفت بمعاهدة باردو بضغط من الجنرال الفرنسي برويار، خضعت بموجبها البلاد التونسية للحماية الفرنسية إلى أن استقلت الخضراء في 20 آذار/مارس 1956 وكانت باجة بفلاحتها وإنتاجها الوفير من أهم الولايات التي ساهمت في بناء الاقتصاد التونسي.
معالم متعددة
تتكون باجة من مدينتين، واحدة قديمة ذات طابع عربي إسلامي فيها العديد من المعالم الدينية والثقافية والأسواق، وأخرى حديثة بنيت في زمن الاستعمار الفرنسي للبلاد ويهيمن عليها الطابع الأوروبي. ويعتبر البعض أن هناك مدينة ثالثة في باجة وتضم الأبنية التي تم تشييدها بعد الاستقلال والتي توسعت من خلالها المدينة وهي في الأساس عمارات سكنية ومبان إدارية ومدارس والكثير من المرافق العمومية، جعلت المدينة تتوسع وتنفتح على محيطها من المدن والقوى التابعة لولايتها في الأساس.
وتعتبر القصبة أهم المعالم في باجة، بالنظر إلى موقعها المرتفع والمطل على المدينة والذي اختاره القرطاجيون لإحكام السيطرة على المدينة من جهة ولحمايتها من الغزاة من جهة أخرى. وتفطنت الحضارات المتعاقبة على البلاد إلى أهمية قصبة باجة فأولتها العناية اللازمة ترميما وتجديدا وتوسعة، وسارت على نهج هذه الحضارات دولة الاستقلال التي اعتبرتها كنزا أثريا هاما وتراثا إنسانيا وجبت حمايته.
وتضم باجة العديد من المساجد القديمة لعل أشهرها المسجد الكبير المنتصب في قلب المدينة العتيقة وقد بني سنة 944 ميلادية من قبل الفاطميين، وهناك أيضا مسجد الباي ويسمى أيضا المسجد الحنفي وقد بناه ملك البلاد مراد الثاني سنة 1675 وهو مسجد الأحناف، من إنكشارية العثمانيين بما أن أهل تونس يعتنقون المذهب المالكي. كما تضم مدينة باجة العتيقة أضرحة للأولياء الصالحين يرتادها أهل التصوف لعل أشهرها ضريح الولي سيدي بو تفاحة الذي تشتهر به المدينة ويعرفها البعض به.
وتعتبر أسواق مدينة باجة من أهم معالم المدينة العتيقة التي يجد فيها المرء ضالته من كل أنواع المنتوجات الحرفية والغذائية وغيرها ويشعر فيها المرء بالأهمية الاقتصادية للحاضرة الشمالية الغربية للبلاد التونسية. وتشتهر بصناعة حلويات المخارق والزلابية التي يقبل عليها التونسيون من مختلف جهات البلاد خصوصا في شهر رمضان حيث لا تكاد تغيب عن موائد الإفطار.
لقد دمر الفرنسيون سور مدينة باجة الذي كان يحيط بالمدينة العتيقة ويضم عددا كبيرا من الأبواب وهو التخطيط المعتمد في جل الحواضر العربية والإسلامية. ومن أشهر الأبواب في مدينة السنابل واللقالق باب العين، وباب الجنائز، وباب السبعة، وباب السوق، وباب جديد وغيرها، ومن هذه الأبواب ما هو روماني ومنها أيضا ما يعود إلى العصور الإسلامية وهو ما يقيم الدليل على الثراء الحضاري للمدينة.
حاضرة ثقافية
تقام في المدينة العديد من المهرجانات المتنوعة شكلا ومضمونا مما يساهم في إضفاء حركية على المشهد الثقافي وعلى مدار السنة. وأهم مهرجانات باجة على الإطلاق هو المهرجان الصيفي الذي يكاد يكون المتنفس الوحيد للمدينة خلال فصل الصيف، فالمدينة بعيدة عن البحر رغم إطلالة الولاية على نافذة بحرية صغيرة قرب مدينة نفزة تسمى شط الزوارع، وبالتالي فالنشاط السياحي يكاد يكون منعدما في باجة ويصبح المهرجان الصيفي قبلة من ليست له الإمكانيات للتحول إلى المدن السياحية المجاورة على غرار طبرقة.
ومن بين أهم المهرجانات في باجة، الأيام المسرحية التي يقع تنظيمها في فصل الربيع حيث يكسو محيط المدينة بساط أخضر من سنابل القمح قبل اصفرارها صيفا استعدادا للحصاد. ورغم أن مدينة الكاف المجاورة هي التي عرفت بنشاطها المسرحي بوجود فرقة مسرحية عريقة ومحترفة ومركز للفنون الدرامية وإذاعة جهوية، إلا أن الفرق المسرحية في باجة فرضت نفسها في السنوات الأخيرة وباتت تحظى باهتمام المتابعين للشأن الثقافي بالنظر لما تقدمه من أعمال هادفة.
وتقام في باجة أيضا الخرجة السنوية للولي الصالح سيدي بو تفاحة الذي يتبرك به أهل المدينة ويحرصون على زيارته بالنظر إلى تجذر الفكر الصوفي في المدينة كما أغلب مدن تونس وبلاد المغرب عموما. والخرجة هي نقل للإنشاد الصوفي إلى خارج الزوايا، وتحديدا في الأزقة والطرقات، وتستعمل فيها بعض الآلات الإيقاعية مع رفع السناجق والأعلام التي تخص هذا الولي الصالح أو ذاك طيلة عملية التجوال للمنشدين والمريدين.
قطب صناعي
ورغم صبغتها الفلاحية فإن باجة أيضا هي قطب صناعي في محيطها وتضم عديد المصانع الهامة منها معمل السكر الشهير التابع للشركة التونسية للسكر والذي صار مضرب الأمثال، وكذلك مصنع كابلات السيارات كرومبرج وشوبير، وشركة المطاحن الكبرى، والشركة التونسية للمشروبات الشمال ومجمع الألبان ومصنع الآجر بو تفاحة. والملاحظ أنها صناعات غذائية مرتبطة بالإنتاج الزراعي للولاية، وأيضا غير فلاحية الهدف من بعثها هو الحد من البطالة التي استفحلت في السنوات الأخيرة.
يشار إلى أن الدولة قد هيأت منطقة صناعية لهذا الغرض في مدينة السنابل واللقالق لتشجيع المستثمرين التونسيين والأجانب على الاستثمار في المدينة وتحويلها إلى قبلة لرجال الأعمال من مختلف الجهات والأمصار. كما أن المدينة مطلة على الطريق الرابطة بين العاصمة والحدود الجزائرية وهي لا تبعد كثيرا عن عاصمة البلاد، الأمر الذي من المفروض أنه يشجع على الاستثمار وتحويل البلاد إلى قطب صناعي. وفي هذا الإطار يرى الباحث التونسي في المركز المغاربي للبحوث والدراسات والتوثيق تيسير ضيا، وهو من أبناء ولاية باجة، أن جهته فلاحية في الأساس ويجب أن تبقى كذلك حفاظا على جودة المنتوجات الزراعية. فالصناعات حسب محدثنا ملوثة للبيئة ويجب العمل على عدم حصول كارثة بيئية في باجة التي تتغذى من إنتاجها تونس وربما دول مجاورة.
ويضيف قائلا: “حماية المدينة من التلوث الصناعي ضرورة لا محيد عنها، خاصة وأن معارك السنوات المقبلة ستكون من أجل الغذاء الذي سيصبح وجوده نادرا على وجه الأرض. وإن كان لا بد من تركيز صناعات في باجة فلتكن صناعات غذائية مرتبطة بإنتاجها الفلاحي مثل صناعة الحليب والأجبان والعجين والسكر وغيرها من الأنشطة التي تساهم في التشغيل وتأخذ من معين الإنتاج الفلاحي لباجة وتزيد القيمة المضافة للمنتوج دون أن تلوث البيئة.
وحتى بالنسبة للسياحة فلا يمكن لباجة أن تتحول إلى قطب سياحي لأنها مثلما أسلفنا مصدر غذاء التونسيين، وإقامة الفنادق والمرافق السياحية ستقضم من الأراضي الزراعية مثلما حصل مع زيتون الساحل الذي اختفى جزء كبير منه في ولايتي سوسة والمنستير فاسحا المجال للفنادق الفخمة وملاعب الغولف والمطاعم وأماكن الترفيه. لقد تم غرس أشجار زيتون جديدة في جهتي القيروان وسيدي بوزيد، عوضا عن زيتون الساحل، لكن لا يمكن إيجاد أراض جديدة لإنتاج القمح في حال استغلت باجة ومحيطها للنشاط السياحي، يجب أن تبقى سنابلها الذهبية شامخة على الدوام وكذا طائر اللقلق الذي بات رمزا لباجة أقيمت له التماثيل في مدخل المدينة واستبشرت بمروره من فوق الملعب جماهير ناديها لكرة القدم واعتبرته طالع خير لتسجيل الأهداف والفوز في المباريات”.