واشنطن – «القدس العربي» : لم يتعرض أي رئيس في أمريكا طوال تاريخها، للتجاهل والازدراء وحتى الإهانة، خصوصًا من دولة حليفة، أكثر من جوزيف بايدن، الذي تنتهي ولايته بعد ثلاثة أشهر ونيّف. تظهر وقائع السنة الماضية أن رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو الذي عاد إلى السلطة قبل أقل من سنتين، تعمّد منذ طوفان الأقصى إذلال رئيس أكبر دولة داعمة لكيانه بطريقة مكشوفة، وتجاوز جميع الخطوط الحمر التي وضعتها له وأحبط جميع مساعيها الدبلوماسية بوقاحة غير مسبوقة، وتنكر لوعوده الصريحة لها من أجل مواصلة حرب الإبادة التي يشنها على شعب فلسطين في غزة والضفة الغربية والتي وسعّها مؤخرًا لتشمل لبنان بوحشية ليدفع كامل الشرق الأوسط إلى حافة اضطرابات واسعة لا أحد يعرف مخرجًا لها إذا وقعت. واللافت أن نتنياهو الذي لم يكن على علاقة جيدة مع إدارة بايدن منذ تشكيله الحكومة الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل، على حد تعبير أمريكا، تحدى الولايات المتحدة علنًا على خلفية خياراته الداخلية التي شكلت رفضًا صريحًا لـ”نصائح” واشنطن، سواء ما يتعلق بالتضييق الشامل على مواطني إسرائيل ذوي الأصول العربية، أو الشروع في توسيع حركة الاستيطان الجشعة والبطش في الأراضي الفلسطينية في مسعى أكيد لتجاوز كل ما تبقى من التزامات دولية وترتيبات وقعت عليها الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعد اتفاق أوسلو 1993، أو محاولة الانقلاب على النظام السياسي لمآرب شخصية وحزبية من خلال الحد من صلاحيات القضاء والمحكمة العليا وجعلها تابعين للسلطة التنفيذية مباشرة. ونفذ نتنياهو كل ما أراده بدون أي اعتبار لبايدن وإدارته.
يكشف كتاب جديد للصحافي الأمريكي المرموق بوب وودورد يحمل عنوان “حرب”، عن سنوات بايدن في البيت الأبيض، تفاصيل مذهلة عن سير العلاقة بين بايدن ونتنياهو وكيف تمكن الأخير من فرض إرادته على الأول على الرغم من الدور الهائل الذي لعبته أميركا لنجدة إسرائيل بعد السابع من أكتوبر وحمايتها المباشرة لها عسكريًا ودبلوماسيًا ومعنويًا، وعلى الرغم من السياسة الأمريكية المعلنة وموقف بايدن الشخصي شديد السلبية من نتنياهو. يصف بايدن في أحد الاجتماعات في الربيع الماضي، نتنياهو بـ “ابن العاهرة” بعد تصعيد الاحتلال للحرب في جنوب غزة، ويقول وفق مسؤولين كانوا في الاجتماع: “إنه رجل سيئ، إنه (…) سيئ جدًا”. ويشبه وودورد العلاقة بين الرجلين بقطار الملاهي لشدة تقلباتها وتعرجاتها. وفي اقتباس آخر ينقل حوارًا بينهما جري في نيسان/ أبريل يسأله فيه بايدن “ما هي استراتيجيتك يا رجل”؟ فيجيب نتنياهو “يجب أن نذهب إلى رفح” ليقول له بايدن “بيبي، ليس لديك استراتيجية”.
في الشهر نفسه، أمر نتنياهو بغارة جوية على مبنى السفارة الإيرانية في دمشق أدت إلى مقتل الجنرال في الحرس الثوري محمد رضا زاهدي وسبعة ضباط آخرين وسبعة من الموظفين، وعندما نفذت إيران الهجمة الصاروخية الأولى من نوعها على إسرائيل كانت البحرية والقوات الأمريكية أول وأكثر من تصدى للصواريخ والطائرات المسيّرة بعيدة المدى ومنعها من تحقيق أهدافها، وبعد ذلك أمر باجتياح رفح رغم كل المعارضة الأمريكية وسيطر على محور صلاح الدين (فيلادلفيا) الذي يفصل بين قطاع غزة وسيناء المصرية في خطوة انتهكت أحد البنود الواضحة لاتفاقية كامب ديفيد واكتفت واشنطن بإعلان عدم موافقتها على ذلك لكنها استمرت في تزويد الاحتلال بكل ما يطلبه من طائرات وقنابل ثقيلة (لوّحت الإدارة الأمريكية بإمكان حرمانه منها)، ثم كافأت نتنياهو بدعوة رسمية إلى واشنطن ليخاطب العالم من على منبر الكونغرس في تموز/ يوليو.
واكتفى بايدن بالتعبير عن سخطه من نتنياهو في اجتماعاته مع مساعديه وصفه بـ “الكذاب القذر”، وهي اللغة التي استخدمها معه في اتصال هاتفي بعد الغارة على الضاحية الجنوبية لبيروت التي أدت إلى مقتل القائد العسكري لحزب الله فؤاد شكر في الثلاثين من تموز 2024، (بعد أيام من عودة نتنياهو من واشنطن ولقائه بايدن). “ما هذا الهراء يا بيبي”، يقول بايدن لنتنياهو ويسأله: “أتعلم أن صورة إسرائيل حول العالم تبدو باضطراد كدولة مارقة”؟ ليرد الأخير: “الهدف كان واحدًا من أبرز الإرهابيين، أتيحت لنا فرصة وأخذناها، وكلما ضربت بقوة ستكون أكثر نجاحًا في المفاوضات”. ويظهر الكتاب حجم حنق بايدن من نتنياهو في اقتباسات كثيرة وحقيقة رأيه الشخصي به كسياسي انتهازي ليست لديه أية خطة سوى البقاء في الحكم فهو “لا تهمه حماس كل ما يهمه هو نفسه”، ويتساءل بصوت عال أمام مساعديه لماذا لم تقم انتفاضة ضده في إسرائيل تخرجه من السلطة؟
يبدو في تفاصيل الكتاب أن بايدن الذي دأب منذ وصوله إلى البيت الأبيض، على تعميم صورته كرئيس فعّال وسياسي محنك تمكن من استعادة مكانة أمريكا دوليًا وأعاد ترتيب العلاقات الإستراتيجية مع أقرب الحلفاء خصوصًا في حلف الناتو وشرق آسيا بعد عشوائية سلفه دونالد ترامب الذي أربكهم بقراراته ومواقفة المرتجلة التي ضعضعت الأسس التي أرستها واشنطن للنظام العالمي بعد خروجها منتصرة من الحرب العالمية الثانية وتحوّلها إلى قائدة منفردة للتحالف الغربي بلا منازع، وجاء الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، ليجدد شباب تلك القيادة، لكن تلك الصورة ما لبثت أن تهاوت بعد طوفان الأقصى أمام وقاحة نتنياهو وتعنّته، لتبدو إسرائيل أكثر نفوذًا من الدولة العظمى التي توفر لها كل أسباب الوجود وتمنحها الحماية العسكرية المباشرة في موازاة جسر جوي لم يتوقف لسنة كاملة، لينقلب المشهد، ويصبح الرئيس الأقوى في العالم أعجز من التأثير على رئيس وزراء دولة تحتاج منه لكل شيء، وهو مكروه في بيئته وكان على وشك الخروج من السلطة.
في تاريخ العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية محطات كثيرة تصرف فيها البيت الأبيض بحزم مع تل أبيب، ففي العام 1991، أجبر الرئيس جورج بوش الأب رئيس وزراء إسرائيل في حينه الإرهابي إسحاق شامير على حضور مؤتمر مدريد للسلام، يومها قال وزير الخارجية جيمس بايكر جملته الشهيرة “نحن الولايات المتحدة الأمريكية وإذا أراد أصدقاؤنا في تل أبيب أن يقولوا لنا شيئًا فهذا رقم هاتفنا” وأورد رقم وزارته. وفي العام 2001، عندما دفع آرييل شارون دبابته بضعة أمتار داخل الحد الفاصل مع غزة، رفض جورج بوش الابن الرد على اتصالاته وقال علنًا أتكلم معك عندما تنسحب إلى المواقع التي انطلقت منها! هذا النوع من الحزم كان ولا يزال مفقودًا لدى بايدن الذي طالما ردد وفي أكثر من مناسبة أنه صهيوني ولو لم يكن يهوديًا، والذي خرق البروتوكول الرئاسي وهرع إلى تل أبيب المضطربة بعد طوفان الأقصى ليدعم نتنياهو الذي كانت شعبيته في الحضيض، ويطمئنه على أمن إسرائيل وتفوقها.
لن تتوقف آثار عجز بايدن عندما يخرج من البيت الأبيض ولا عندما تنتهي الحرب، فالأذى الذي ألحقه بهيبة أمريكا ونفوذها عالميًا ستترتب عليه مضاعفات متوسطة وطويلة الأمد. قادة العالم من خصوم وحلفاء تابعوا تلك المهزلة بالتفصيل، وهم بلا شك سيأسسون عليها لتعديل طبيعة تعاملهم مع واشنطن التي سيكون عليها أن تسعى جاهدة لمحو صورة الوهن التي ساهم نتنياهو في تظهيرها، هذا إن لم يعد ترامب إلى السلطة ليستأنف فوضاه التي ستؤكد للأمريكيين والعالم أن المشكلة ليست في الأشخاص وإنما في الدولة التي فقدت شيئًا من روحها لأنها لم تتجدد بعدما انفردت في الصدارة بعد نهاية الحرب الباردة، وفي نخبها التي تقدم مصالحها الانتخابية والفئوية على مصلحة الأمة ولا تتوانى عن الكذب والتضليل والانتهازية من أجل منصب أو صفقة أو امتياز.