أجرى الرئيس الأمريكي بايدن، أمس، زيارة خاطفة لإسرائيل في ذروة الحرب في قطاع غزة. هي خطوة غير مسبوقة رافقها خطاب سيسجل في كتب التاريخ. واصل بايدن عناقاً دافئاً وموافقة علنية لإسرائيل. مع ذلك، هذا العناق يعكس قلق أمريكا من تصرفات القيادة في إسرائيل واحتمالية أن يؤدي ذلك إلى حرب إقليمية، وكانت عدة طلبات من ناحيته أيضاً.
أبلغ بايدن الإسرائيليين بأنهم ليسوا وحدهم، وطرح بشكل مؤثر ذكرى الكارثة التي عادت إلى الخطاب الإسرائيلي بكل القوة بعد المذبحة الصادمة للمدنيين في غلاف غزة التي نفذتها حماس في الهجوم في 7 تشرين الأول. وقد شرح لسامعيه الأمريكيين بأن هذه الأعمال الفظيعة تشبه الـ 15 هجوماً في 11 أيلول. كرر الرئيس تهديده القاطع لإيران و”حزب الله” كي لا تدخلا في حرب مع إسرائيل رغم أنه من الواضح قد اتفق مع مستضيفيه بأنه لا توجد أي معارضة للولايات المتحدة بالقيام بعملية برية للجيش الإسرائيلي في القطاع. وقد وعد أيضاً بايدن برزمة مساعدات أمنية أمريكية واسعة وتعهد بحصول الجيش على كل السلاح الذي سيحتاجه.
عند الاستماع للرئيس العجوز والمثير للانطباع، لم يكن بالإمكان أن لا نأسف على غياب زعيم إسرائيلي لديه قدرة مشابهة لإظهار الإنسانية (المستضيف الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شوهد وهو يبعد بيده رئيس الدولة إسحق هرتسوغ كي يلتقط هو أولًا صورة مع الضيف على سلم الطائرة). مع ذلك، جاء بايدن وهو يحمل أقوالاً ظهرت متناقضة من وجهة نظر إسرائيل، التي تكررها الأستوديوهات يومياً. هو يؤيد القضاء على حماس، ولكنه يعارض احتلال القطاع. ويوضح بأنه بالنسبة له ليس جميع الفلسطينيين في غزة هم من أعضاء حماس.
ربما تجد الولايات المتحدة في الكارثة التي حدثت هنا فرصة استراتيجية؛ فمنذ سنوات كثيرة وأمريكا تحمل على ظهرها سنامة من فترة الرئيس باراك أوباما والرئيس دونالد ترامب، وتثير الشكوك من قبل أصدقائها في المنطقة بخصوص التزامها بأن تهب لمساعدتهم في أوقات المحنة. صاغ أوباما في 2013 خطوطاً حمراء ضد نظام الأسد في سوريا حين استخدم السلاح الكيميائي ضد المواطنين، ولكنه [أوباما] لم يطبق أقواله. تجنب ترامب في 2019 مد يد العون للسعوديين عندما أصيبت مواقع النفط في بلادهم جراء هجوم إيران. عندما كان بايدن نائباً للرئيس أوباما لم يوافق على خطوة الرئيس هذه.
استراتيجية الإدارة الحالية أكدت على التحالفات الإقليمية. هذه فرصة للمساعدة ومحاولة إحياء التحالفات التي يبدو أنها تضررت (ضعف إسرائيل الذي يظهر هنا قد يكون له ثمن أيضاً في العلاقات مع الدول الصديقة في المنطقة)، وإظهار القوة في المنافسة مع الصين على النفوذ العالمي. على الصعيد السياسي، قبل سنة وبضعة أسابيع على الانتخابات الرئاسية، فإنه من غير السيئ لرئيس ديمقراطي أن يظهر القوة العسكرية (إن كان لاستخدامها الفعلي، مع إمكانية التورط، يمكن أن تكون تأثيرات سياسية سلبية).
الدعم الأمريكي رافقته أيضاً طلبات. وافق عليها “كابنيت الحرب”؛ ولم يكن أمامه خيار آخر؛ يمكن تجاهل الخطاب العنيف في أستوديوهات اليمين. إسرائيل لن تعيق المساعدات الإنسانية من مصر لجنوب القطاع ما دام الحديث يدور عن غذاء ودواء للسكان المدنيين. وبخصوص المساعدات الإنسانية من أراضيها، فإنها ستسمح بذلك بعد إعادة المخطوفين الإسرائيليين، وهي تطالب بالسماح بزيارتهم من قبل الصليب الأحمر.
بالتأكيد، على الممر الإنساني فقد أملى بايدن على إسرائيل قواعد لعب جديدة. هذا ينبع من الوضع في المنطقة الشمالية. إسرائيل بحاجة إلى الردع الأمريكي، وعلى رأس ذلك وجود حاملات الطائرات كي لا يغري ذلك إيران و”حزب الله” بالانضمام إلى لمعركة. هذه الأمور ما زالت ديناميكية. فلا توجد قدرة استخبارية كي تقرر بشكل مؤكد كيف سيتصرفون هناك. من الواضح أن الإيرانيين يعطون وزناً ثقيلاً لرئيس “حزب الله”، حسن نصر الله، وقدرته على تحليل اعتبارات إسرائيل.
المشكلة أن حسن نصر الله بات حذراً جدا منذ الحرب في 2006. يبدو أنه مصاب بالدوار بعض الشيء من مكانته الجديدة. يواصل “حزب الله” هجماته بالصواريخ المضادة للدروع وإطلاق قذائف الهاون وإطلاق النار من سلاح خفيف ويفحص صبر إسرائيل يومياً. هجوم أمس شمل إطلاق الصواريخ على “كريات شمونة”. وبعد بضع دقائق على انتهاء خطاب بايدن (بعد طيران الرئيس أطلقت رشقات من غزة). قتل الجيش الإسرائيلي خلية أطلقت قذائف الهاون نحو إسرائيل. وفي هذه الأثناء، أعلنت الأمم المتحدة والسعودية عن إخلاء رعاياها من لبنان خوفاً من اندلاع حرب وشيكة.
قدوم بايدن يرمز أيضاً إلى محاولة إقامة نوع من تحالف غربي لدعم إسرائيل، بروحية الوقوف الأخلاقي لغرب أوروبا تأييداً لأوكرانيا حين هاجمتها روسيا. ربما ساعدت حماس على بلورة هذا التحالف عندما وجهت صلية صواريخ إلى مطار بن غوريون وقت خروج المستشار الألماني من هنا في ليلة أول أمس. في الأيام القريبة القادمة، سيزور البلاد أيضاً زعيما فرنسا وبريطانيا. أرسلت بريطانيا سفناً حربية إلى المنطقة. وأرسلت فرنسا تهديدات لإيران ولبنان وذكرتهم بالأضرار المالية التي تنتظرهم إذا لم يتم وقف تصعيد “حزب الله”.
قوة الكذب
حاولت حماس تغيير وجه المعركة مساء أول أمس عندما ضخّمت حادثة المستشفى في غزة. كان هذا حالة اختبار لمناورة الكذب التي نتوقعها في الحرب. وقد كشف عن صعوبات التغطية الإعلامية وسهولة تنفيذ تلاعبات، التي أدت إلى المظاهرات العنيفة في الأردن وتركيا والضفة الغربية.
بعد ثلاث ساعات تقريباً، اتضح ما حدث وبحق. “الجهاد الإسلامي” أطلق الصواريخ نحو إسرائيل من مقبرة قريبة من المستشفى. أحد هذه الصواريخ انفجر في الجو بسبب خطأ وسقط في كراج المستشفى. اتهم الفلسطينيون إسرائيل، وضخمت وزارة الصحة في غزة التابعة لحماس عدد المصابين. هذا العدد قفز إلى 500 قتيل في المساء. تجمع في الكراج الكثير من اللاجئين الذين وجدوا فيه مأوى من القصف الإسرائيلي. ولكن القصة الفلسطينية كانت مليئة بالثقوب. وحتى الآن ستمر ساعات من أجل إقناع وسائل الإعلام الأجنبية بأن الأمر يتعلق هنا بتشويه. ومعظم وسائل الإعلام العربية تجاهلت الوقائع، رغم أن هذه الأقوال ظهرت أيضاً في توثيق قناة “الجزيرة”.
نشر الجيش الإسرائيلي صور الإطلاق الذي تم توثيقه بكاميراته وبكاميرات مدنية أيضاً. الحفرة التي وجدت في المكان لا تناسب هجوماً جوياً أو عدد المصابين. وسجلت إسرائيل مكالمة هاتفية بين اثنان من أعضاء حماس تؤكد حدوث خلل لدى “الجهاد” وأنه يجب اتهام إسرائيل بذلك. إسرائيل تعرف أن كل من يصاب في حادث يتم الإبلاغ عنه كقتيل، ويبدو أن عدد القتلى الذي لم تتسبب هي به في الأصل، لم يتجاوز بضع عشرات من المدنيين.
المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي، العميد دانييل هاجري، عرض الأمور بصورة مقنعة صباح أمس. وقال بايدن إنه علم بـ “عمل تسبب به الطرف الثاني” (الفلسطينيون). ولكن بسبب الحاجة إلى اتضاح الوقائع وتقديم إجابة موثوقة، مرت بضع ساعات إلى أن استطاعت إسرائيل دحض هذه الشكوك. الأمر الذي ما يزال مقلقاً هو أن هاجري ووحدة المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي كانوا وحدهم في المعركة؛ 12 يوماً في الحرب ولا توجد أي جهة حكومية تعلن إلى جانب الجيش الإسرائيلي. ربما هذا غير مفاجئ: كل وزارات الحكومة لا تقدم المساعدات للسكان. هذه المهمة تركت لمنظمات المجتمع المدني وجهاز الأمن.
من المهم التوضيح بأن إسرائيل لا تهاجم المستشفيات بشكل متعمد، لكن الاكتظاظ الشديد في القطاع وحقيقة أن التنظيمات الفلسطينية تستخدم السكان المدنيين كدروع بشرية، ربما تؤدي أيضاً إلى حدوث أخطاء حقيقية، التي سيقتل فيها الكثير من المدنيين في القطاع. هذا حدث في السابق. وللحقيقة، هذا لا يجد أي اهتمام في وسائل الإعلام الإسرائيلية الغارقة في الحداد.
فترة الانتظار
عندما قام الجيش الإسرائيلي بالمناورات والتدرب على سيناريوهات الحرب، تم التأكيد دائماً على الحاجة إلى الاستعداد بسرعة لعملية برية لاستغلال الزخم وهامش الشرعية الدولية. هذا لم يحدث في هذه المرة. وقد مر 12 يوماً على الهجوم المفاجئ، وجندت إسرائيل نحو 350 ألفاً من الاحتياط وجمع القوات في الشمال والجنوب، ولكنها ما زالت في حالة انتظار. هذا كان متعلقاً بالحاجة إلى التنسيق مع الأمريكيين وزيارة بايدن والضغوط الأخرى. هناك أيضاً أولويات للانتظار، يمكن خلالها تدريب الوحدات بشكل أفضل وقصف المنطقة المحددة من الجو في محاولة للتسهيل على القوات التي ستعمل.
أما تجاه الخارج فإن المستوى السياسي والعسكري يتحدث عن هذا الشأن بصوت واحد: يجب إدخال القوات وتدمير سلطة حماس. فعلياً هناك فجوات في الخطاب وفي تحديد الأهداف. تطرح أيضاً أسئلة حول درجة الاستعداد لعملية واسعة، مع الأخذ في الحسبان تهديدات حماس بمنظومة الدفاع التي تعدها في الداخل. نسبة الإنجاز التي وضعت أمام الجمهور هنا مرتفعة جداً. هذه مهمة تحتاج أشهراً وربما سنوات. فهل إسرائيل على استعداد لتكريس الموارد وطول النفس المطلوبين؟ هناك توتر طبيعي داخل المستوى السياسي (نتنياهو وغالنت، والشركاء الجدد الذين فرضوا عليهما، غانتس وآيزنكوت). وبينه وبين المستوى الأمني وداخل الجيش نفسه (هيئة الأركان التي فشلت أمام قادة الميدان الذين وصلوا بشكل متأخر وقاتلوا من أجل تحرير البلدات في الغلاف وضباط كبار آخرين في الاحتياط).
في الخلفية يتحدثون كثيراً عن الحاجة إلى إعادة الثقة بالجيش الإسرائيلي التي تضررت بشكل كبير، وعلى المحك النهائي الذي بدونه لن تتم اعادة الردع أمام إيران و”حزب الله” والأعداء والجيران الذين شاهدوا إسرائيل وهي متفاجئة ومتضررة بهذا الشكل. وتسمع في هيئة الأركان وفي وحدات المقاتلين التي تنتشر حول غزة، تُسمع وعود لا بأس بها بالثأر. الأمور الفظيعة التي نفذها الفلسطينيون في المستوطنات وفي الحفل في الهواء الطلق وفي البيوت والشوارع، ما زالت تعرض بصيغة حذرة على الجمهور. ولكن تفاصيل هذه الأفعال معروفة للكثيرين. في الخطاب الإسرائيلي لم يسمع حوار كهذا حول الثأر، الذي أشير إليه بالرموز في النقاشات عبر التلفاز. وإذا لم يكن هذا كافياً، فإن هناك حاخامات عسكريين، يتجولون الآن في القواعد ويعطون المواعظ بمحو نسل عملاق. وقال مصدر عسكري رفيع للصحيفة: “الثأر ليس خطة عمل، يجب التركيز على الهدف”.
كل ذلك يحدث في الخريف. في الشتاء سينتشر الوحل ومياه المجاري في غزة، ويكون من الصعب منع انتشار الأمراض بين السكان المدنيين المكتظين، والذين سيتم زجهم في جنوب القطاع في ظروف قاسية. ربما هذا لا يهم الرأي العام الإسرائيلي بعد فظائع “داعش” التي ارتكبتها حماس في الغلاف (كما تطرق بايدن إلى ذلك بشكل مفصل نسبياً في خطابه). ولكن يجب معرفة أن الأمريكيين يدركون بأن على إسرائيل العمل بصورة قاسية ضد حماس. وفي الوقت نفسه، يتوقعون منا إنجازاً عسكرياً، لكن ليس التنكيل الهستيري. والفترة الزمنية المعطاة من ناحيتهم للجيش ربما ستكون طويلة، لكنها محدودة.
عاموس هرئيل
هآرتس 19/10/2023