في مثل هذا الأسبوع من العام الماضي، تسلّم هرتسل (هرتسي) هليفي منصب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، خلفاً لأفيف كوخافي. في حفل التّسلّم والتسليم، قال رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، مخاطباً كوخافي: «تحت قيادتك أوقعنا بحماس الضربة الأقسى في تاريخها، ونتيجة لذلك يسود الهدوء حدود غزة». ثم تابع كلمته موجِّهاً الحديث لهرتسل هليفي: «اسم هرتسل هو اسم مشحون وملزِم، فهو، (يقصد هرتسل الأول) أدرك الخطر المحيق بشعبنا، وأعدّ خطّة وبرنامجاً لتأمين وضمان وجودنا. وتدرك حكومة إسرائيل، اليوم أيضاً، الخطر، وتعطي التوجيهات لجيش الدفاع الإسرائيلي لإعداد خطّة لصدّه».
مضت سنة على هذا التّبجيل لهرتسل الأول، مؤسس الحركة الصهيونية العنصرية، والتّبجح بدور حكومة نتنياهو وتعظيم دور جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي. أين هي إسرائيل الآن من كل هذا؟.
لو كانت إسرائيل دولة وكياناً سياسياً طبيعياً وعادياً، لأمكن توقّع قدرتها على الخروج من المأزق الذي هي فيه اليوم. لكنها ليست كذلك. فهي نبت هجين وشيطاني متسلّق، يتغذى وينمو بفضل عناصر قوة، مهولة من جهة، لكنها، جميعاً، عناصر قوة غير ثابتة، من جهة ثانية.
هذه الحقيقة تستدعي بعض التوضيح لمعرفة أبعاد وعمق الفروقات الكبيرة، بين أنواع عناصر القوة، وتأثيرها الحاسم في تحديد مستقبل الصراعات.
تتوزّع عناصر قوة الدول والشعوب والأمم، على ثلاثة محاور، يمكن لنا وضعها في ثلاث قوائم:
ـ أوّلها: محور «عناصر القوة الدائمة والثابتة» التي لا تحول ولا تزول. وأبرزها: الموقع الجغرافي على خريطة الكرة الأرضية وقارّاتها، عدد السكان، المساحة، طبيعة جغرافيتها، نوعية التربة، المناخ، وتوفّر المياه من مصادر طبيعية مباشرة.
ـ وثانيتها: محور «عناصر القوة شبه الثابتة» وأبرزها: ما في باطن الأرض من موارد للدولة والشعب والأمة، مثل المعادن، بأنواعها: الثّمينة، شبه الثّمينة، والعادية؛ وكذلك ما في باطن الأرض من نفط وغاز؛ وتندرج كذلك في هذا المحور: المياه المتوفِّرة من الأنهار العابرة من دول المنبع الى دول المرور والمصبّ. (ولا يضيرنا في هذا السياق، من تأكيد ضرورة التعامل بجدّية مع ما نشهده هذه الأيام، من قضايا منابع النيل من إثيوبيا، (وأوغندا) وتأثيره على دولة العبور: السودان، ودولة المصبّ: مصر؛ وكذلك منابع دجلة والفرات من تركيا، وتأثيرها، جزئيّاً، على سوريا.. (الخابور) وكثيراً، على العراق.. (دجلة والفرات)؛ دون أن ننسى أن بداية التوتّر الذي انتهى الى نشوب حرب حزيران 1967 كانت بسبب تحويل إسرائيل لمجرى نهر الأردن وسرقة مياهه).
ـ وثالثتها: محور «عناصر القوة المتغيّرة» غير الثابتة. وأبرزها: القوة العسكرية، انسجام المجتمع وتماسكه، نوعية القيادة، قوة التحالفات ونوعيتها والتقدّم العلمي.
في كل أنواع عناصر القوة الدائمة والثابتة، تتقدّم وتتفوّق دول وشعوب الأمة العربية على إسرائيل بما لا يُقاس. وفي كل عناصر القوة شبه الثابتة، تتقدّم وتتفوّق دول وشعوب الأمة العربية على إسرائيل الى درجة كبيرة جداً.
أمّا في عناصر القوة المتغيرة، غير الثابتة، فقد تفوّقت إسرائيل، منذ إعلان إقامتها، على الفلسطينيين وكل الدول العربية الى حد كبير، ثم تفوّقت الى حد حاسم وبالغ الوضوح، منذ اهتزاز قاعدة «الهرم العربي» مصر، بخروجها من معادلة المواجهة مع إسرائيل، وبدء تآكل دورها في العالم العربي، وهو ما أدّى الى بدء تآكل دورها على الصعيد الدولي. وغني عن القول، إنه لن يستقيم وضع العالم العربي، دون قاعدة صلبة ثابتة وأضلاع متكاملة، وهو ما يستدعي العمل الجدّي لتوافق وانسجام بين مصر والسعودية والجزائر، ومعها العراق وسوريا واليمن والمغرب بعد أن تتعافى.
نعود، هنا، الى جوهر ما تسعى هذه الأسطر توضيحه، فنقول:
تفقد إسرائيل منذ فترة طويلة، بشكل بطيء، أجزاءً وقِطعاً أساسية من بعض مكوّنات عناصر قوتها. لكن هذا النّزف، أخذ يزداد ويتضاعف في كل يوم منذ زلزال السابع من أكتوبر. بعض هذا النّزف المتواصل، غير قابل للتعويض. أكثر من ذلك: إنه ينعكس سلباً على بقية عناصر القوة التي تمتلكها.
هذا التفكك في مكونات المجتمع اليهودي في إسرائيل، أثّر سلبياً على عنصر آخر من عناصر القوة الإسرائيلية، وهو «عنصر التحالفات» بالغ الأهمية
لم تنعم إسرائيل، منذ إنشائها، بعنصر «انسجام» مكوِّنات هذا المجتمع، بين (اليهود الإشكنازيم) المكوِّن الرئيسي للمجتمع اليهودي في إسرائيل، القادمين من دول أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية، والمكوِّن الثاني، (اليهود السفاراديم) الشرقيين، القادمين من الدول العربية والإسلامية؛ بين العلمانيين والمتديِّنين؛ ثم بين كل هؤلاء والحريديم (الأورثوذكس المتشدِّدين)؛ وأخيراً بين كل هذا الخليط، الذي صار يرى في نفسه «إسرائيليا» والقادمين الجدد من دول الاتحاد السوفياتي سابقاً؛ بل وحتى داخل كل واحدة من هذا الفئات لكن ما غطّى على عنصر «انعدام انسجام المجتمع اليهودي في إسرائيل» وعوّض عنه، هو عنصر «تماسك» كل مكوِّنات هذا المجتمع، بسبب الشّعور بالخطر، والخوف من الشعب الفلسطيني، وشعوب ودول العالم العربي، وكان هذا هو الإسمنت والصِّمغ الذي تسبّب بهذا التماسك المتين.
وأصبحت هذه المعادلة، معادلة «البُعبُع» العربي، الكنز الذي يغرف منه كل من يتنافس على الوصول الى مقاعد القيادة، من أفراد وأحزاب سياسية.
بداية تآكل واحد من أهم عناصر قوة إسرائيل، وهو عنصر «تماسك وانسجام المجتمع» بشكل واضح، كانت في سنة 1993، بسبب اتفاقية أوسلو، ولأن من قاد التوجه الى تلك الاتفاقية هو حزب العمل الإسرائيلي، (الماباي سابقاً) برئاسة اسحق رابين وشمعون بيرس، وحلفاؤه من أحزاب اليسار، (بالمقاييس الإسرائيلية طبعاً). وعارضته أحزاب اليمين واليمين المتطرف، وتم إقرار تلك الإتفاقية في الكنيست بفضل «شبكة الأمان» التي وفّرتها «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» برئاسة الراحل الكبير، توفيق زيّاد، و«الحزب العربي الديمقراطي» برئاسة، عبد الوهاب دراوشة. (كان من الممكن أن يتم ذلك مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد وانسحاب إسرائيل من سيناء، لكن ما منع ذلك هو أن من أقرّ تلك الاتفاقية هو مناحيم بيغن، زعيم حزب «الليكود» اليميني، (حيروت سابقاً) وبفضل ما كان يتمتع به من شخصية، ومن تاريخ، ودعمته، بالطّبع، أحزاب الوسط واليسار).
اغتيال رابين أظهر للعلن بدء التشقق الكبير في المجتمع اليهودي في إسرائيل، وتلا ذلك سقوط بيرس، وتشكيل بنيامين نتنياهو لأولى حكوماته، (1996 ـ 1999) لكن الانتفاضة الثانية خدمت المصالح الإسرائيلية الحقيقية والجوهرية، وأعادت للشارع اليهودي في إسرائيل تماسكه، غير أن انسحاب إسرائيل بقرار حكومة أرييل شارون، عاد وأيقظ موجة جديدة من تشقق في المجتمع الإسرائيلي، حيث بدأ اليمين العنصري والفاشي في إسرائيل في مواجهة ما يعتبر في إسرائيل اليمين شبه المعتدل.
على أن الشرخ الأكبر الذي ضرب تماسك وانسجام المجتمع اليهودي في إسرائيل، (وخارج إسرائيل ايضاً، وخصوصاً فئة الشباب في أمريكا) بدأ بشكل عنيف ومتواصل، منذ مطلع العام الماضي، مع بدء تحرّك حكومة نتنياهو الحالية، الأكثر عنصرية في تاريخ إسرائيل، بسبب محاولات الهيمنة على السلطة القضائية هناك، وهو ما قاد الى تظاهرات أسبوعية حاشدة، منذ مطلع العام حتى يوم السابع من أكتوبر، وحيث أن الخطر والخوف والانعدام الكامل للشعور بالأمان، عاد وشكّل شيئاً من التماسك خلال الأسابيع القليلة من بدء الهجمة الدموية الإجرامية على قطاع غزة، وانفلات قطعان المستوطنين في الضفة الغربية والقدس، لكن مدى التمزّق في الشارع اليهودي في إسرائيل، بلغ حدّاً لم يعد قابلاً للعلاج، وتغلغل بفضل نتنياهو وحكومته الى كامل المستويات: من الشارع حتى الجيش، وحتى الحكومة، وحتى الحكومة المصغّرة، وحتى «مجلس الحرب». يكفي أن نشير الى أن حراسات نتنياهو أخضعوا رئيس الأركان للتفتيش قبل السماح له بدخول اجتماع مجلس الحرب وأن وزير الدفاع في حكومة نتنياهو يرفض الاشتراك معه في مؤتمر صحافي.
هذا التفكك في مكونات المجتمع اليهودي في إسرائيل، أثّر سلبياً على عنصر آخر من عناصر القوة الإسرائيلية، وهو «عنصر التحالفات» بالغ الأهمية وخصوصاً التحالف مع أمريكا، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.. و«الحبل على الجرّار».
يضاف إلى كل ما تقدّم: إقدام جنوب إفريقيا على جرّ إسرائيل الى قفص الاتهام في محكمة العدل الدولية، بتهمة جريمة «الإبادة الجماعية» هي المؤشّر الأخير على بدء انهيار كل الرواية الإسرائيلية، ورواية الحركة الصهيونية العنصرية.
كاتب فلسطيني