برقٌ سوريٌ: القبر والرؤيا

حجم الخط
0

رأيتُ سوريينَ يتصارخونَ يتدافعونَ حولَ قبرٍ وأمامَهم تابوتٌ مفتوح، التابوتُ على حافة القبرِ وهم يتدافعونَ موشكينَ على السقوط في القبر ..
كان ليلاً لكنَّهم كانوا يضيئون ..
دماءٌ على الأعشاب تضيء
التابوت يضيءُ
والرجلُ المقتولُ يضيءُ مبتسماً كأنَّهُ يريدُ أن يتكلمَ ولا يستطيع، يريدُ نفضَ الدمِ المتيبسِ على جروحِهِ فيصرخ من الوجع ..
يسقطُ ميتاً فتسّاقطُ عليه نجومٌ وأقمار
تطوفُ حولَهُ وجوهُ ملائكةٍ وحفيفُ ملائكة
يحملونَهُ متدافعينَ حولَ القبرِ وحولَ التابوتِ الذي امتلأ نجوماً واقماراً .. يتفرقون وسرعان ما يتجمعون .. يتدافعون لا يعرفون ماذا يفعلون، يُقبّلونَ الرجلَ المقتولَ، يصيحونَ به: انهض ..
لكنَّ أصواتَهم تُوجعُهم
يقبّلونَ الرجلَ المقتولَ فيبتسم
كأنّهُ يُدركُ ما يفعلون
كانوا يُقبّلونَهُ ويكلّمونَهُ وكأنّهم لا يَقوونَ على دفنهِ فيصيح أحدُهم: متى ندفنُهُ ؟!
فيرد الصدى: أتريدون دفنه حقاً ؟!
أتتركونَهُ وحيداً في عتمة القبر للرطوبة والحشرات ؟!
*****
يتفرقونَ وسرعان ما يتجمعون
يُبعدونَ التابوتَ قليلاً عن القبر
يوشكونَ على السقوطَ في هاويةٍ فيصرخون فَزعين
يريدون أن يقتلوا أنفسهم
أن يتساقطوا إلى القبرِ الواحدَ تلو الآخر
تاركينَ الغبارَ يتصاعدُ إلى عنان السماء
علَّ طيراً يراهمُ فيُخبرُ عنهم ملوكَ الأرض
أو حراسَ الحدودِ
أو قواتَ الأممِ المتحدة !!
******
كانوا يتدافعونَ حولَ التابوتِ
والتابوتُ يهتزُّ، تتخلّعُ أركانُهُ
وتُعيدُ تشكيلَ نفسِها
أصبحَ التابوتُ قارباً يهتزُّ بهم
وموجُ البحرِ يتصايحُ من حولِهم
الرجلُ المقتولُ يتطلعُ إليهم
يريدُ رفعَ يدِهِ كي يودّعَهم فتوجعُهُ الجروح
يصرخُ السوريونَ لكنّهم لا يسمعونَ أصواتَهم
يريدون من الرجل المقتول أن يتأكّدَ
من شدّةِ حبِّهمُ له
يريدون أن يصرخوا أكثر
أن يقولوا أشياءَ أخرى
لكنهم لا يقوون على ذلك، لا خوفاً من القتلة، بل خوفٌ على الرجل من أن يَعرفَ الحقيقةَ، أن يعرفَ أنّهُ مقتولٌ وإنهم يريدونَ دفنَهُ وتركَهُ تحتَ التراب للنمل المجنون ونواميس الظلام!
فتتخلّعُ قلوبُهمُ وجعاً
كأنَّهم يقولون له:
لماذا لا تتحرك؟
انهض وغادر التابوت
لماذا قتلوكَ قبلَنا؟
أحقاً يريدونَ قتلَنا جميعاً ؟!
لكنهم لا يَقوونَ على الكلام
يُهمهمونَ ويبكونَ ثم يصرخون
وإذا بالتراب ينهارُ ويسقطُ التابوت
فيتساقطونَ الواحدَ تلو الآخرِ في أعماق القبر
فأسقطُ معهم صارخاً بأعلى صوتي:
ولكن لمن نتركُ دمشقَ واللاذقيةَ ووجوهَ الغرقى ورسائلَ الحبِّ وأوجاعَ الأشجار؟! لمن نتركُ صورَ الشهداءِ ورائحةَ البحرِ وزهورَ التفاحِ ؟
أصرخُ فيتصاعدُ غبارُ القبرِ إلى عنان السماء
فنخرجُ راكضينَ مغمورينَ بالأمطار والبروق
برائحة الموت وأشجار الموت
نركضُ ونركضُ ولا نصل
نركضُ ودمشقُ تَلوحُ لنا من بعيد
تَلوحُ لنا وتَبتعدُ !!

لندن 2012

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية