بريطانيا العظمى نصَبَتْ على جدّي!

حجم الخط
18

أقوم بشكل تلقائي بزيارة إلى الماضي كل بضع سنوات، وذلك عبر مراجعة ألبومات صُوَر، وإعادة النظر في بعض الأوراق، والاطمئنان إلى وجود بعضها.
هنالك أوراق لا حاجة لها وانتهى تاريخها، ورغم ذلك أحتفظ بها، مثل وصولات قديمة، وأصول دفاتر شيكات صُرفت منذ سنين، ربما بسبب تجارب سابقة، إذ تظهر لك فجأة على غير توقّع مشكلة تحتاج فيها إلى أوراق قديمة كي تثبت فيها موقفك وحقّك.
بعض هذه الأوراق عبارة عن أمانة أعطاني إياها خالي ربما قبل ثلاثة عقود، بعضُها صور قديمة بالأبيض والأسود، وبعضها وثائق قديمة وسندات رسمية من حكومة فلسطين الانتدابية، وهي عبارة عن قرض جَبَته حكومة فلسطين من مواطنيها لدعم المجهود الحربي البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية ومع اقتراب نهايتها.
وهي بقيمة عشرين جنيهاً فلسطينياً والذي كان يساوي الجنيه الإسترليني في حينه بالضبط.
هذه السندات ضريبة إجبارية دفعها جدِّي لأمي عام 1944 وعليها توقيعه، كان يفترض أن يبدأ في صرفها بالتدريج ابتداء من العام 1947 حتى العام 1965 مع الفائدة المسجّلة مع هذه السندات بمئات الملاليم! هذه الأوراق البسيطة المتآكلة ذات اللون الباهت تمنحني قوة كبيرة بقيمتها المعنوية، عندما ألمسها أشعر بالدفء، فهي أوراق أمسكَ بها جَدّي ووقّع عليها، قبل النَّكبة التي كانت تتربص به وبأسرته من وراء الباب.
كانت والدتي طفلة حين وقّع والدها على هذه السَّندات، وكان يحسب حساباته كتاجر، فقد كانت له بقالة في عكا بمحاذاة جامع الجزّار، إذ أقام في عكا بضع سنوات، كان يستأجرها من الوقف الإسلامي علماً أنَّه من قرية شَعَب.
كان جدّي في أواخر العقد الرابع من عمره، وكان يحسب كيف سيصرف بعد سنوات ما اعتبره ادخاراً، وكان على ثقة كبيرة بأوراقه، فهي بكفالة دولة عظمى، لا تغيب عنها الشَّمْس.
هذه السّندات هي صورة مصغرة لحياة عاديّة لشعب كان يعيش في وطنه، تحاول الرواية الصهيونية حجبها كي تبدو فلسطين شبه خالية من الحياة، باستثناء المناطق ذات السَّيطرة اليهودية مثل تل أبيب، والتعاونيات الاشتراكية الجديدة التي أسَّس معظمها المهاجرون من شرق أوروبا، أما العرب فليسوا سوى رعاة وبدو رُحّل.
ومثلما دفع جدِّي ضريبة حرب، دفعها والدي من خلال قرض عن حرب 1973، بينما دفع جيلي سندات حرب العام 1982، التي انتهت بمجزرة العصر في صبرا وشاتيلا.
وأعتقد أن الأجيال القادمة من الأبناء والأحفاد ستدفع سندات حروب من هذا النوع، ربما يكون أحدها قرض الحرب على إيران، أو على سوريا، أو على غزة ولبنان، ولا أستثني أية دولة عربية في العقود القادمة من سندات الحرب بما فيها مصر والأردن، لأن الحروب لن تنتهي في منطقتنا إلى يوم القيامة، إذا رجعنا إلى تاريخ المنطقة منذ عشرات القرون سنجد أن جميع الأجيال دفعت ضريبة حرب بشكل أو بآخر، وهذا سوف يستمر إلى الأبد، وهذا سبب للتفاؤل وليس إلى التشاؤم كما يبدو للوهلة الأولى، لأنه يثبت النظريّة البسيطة بأنه «لا الماشي بظل ماشي ولا الراكب بظل راكب»، «وتلك الأيام نداولها بين الناس»،»ولو دامت لغيرك لما وصلتك».
أذكر جدّي عابساً، ومعه كل الحق في هذا، فقد طُرد من بقالته في عكا ونُهبت، وصودر الوقف الإسلامي واستبيح، ثم طُرد من بيته في قرية شعب مع جميع أبناء أسرته بقوّة السِّلاح، ومُنع مثل بقية أهل قريته، من أخذ أي شيء من أثاث بيوتهم، حتى عندما أخذَت والدتي مرآة على رأسها، لحق بها موظف لدى حارس أملاك الغائبين على حصانه، واستعاد المرآة عن رأسها.
خسِر بيته وعشرات الدونمات من الأرض، منها ما كان مزروعاً بأشجار الزيتون وما زال، تؤجِّره دائرة أملاك الغائبين حتى يومنا هذا لأيٍ كان، إلا لأصحابه أو لورثتهم.
لجأ جدّي على بعد خمسة كيلومترات فقط في بلدة مجد الكروم، حيث عاش كلاجئ حتى آخر أيامه كحاضر غائب، وهو قانون لا يوجد له مثيل في التاريخ البشري إلا في قصص الجن وقُبعة الإخفاء، أن تكون حاضراً وفي الوقت ذاته أن تعاملَ كغائب.
إضافة إلى سندات القروض لبريطانيا العظمى، يوجد وصولات دفع ضرائب على الأرض لحكومة فلسطين الانتدابية، ولكل قطعة أرض اسمها الخاص وضريبتها، قد تكون بالملاليم أو بالقروش.
بعض الأوراق عبارة عن حُجَجِ بيع وشِراء مع أسماء وتوقيعات وبصمات من نفّذوا الصفقة والشُّهود، ويبدو أن جدّي الذي مُنع من أخذ أي قطعة أثاث من بيته، أخذ معه الأوراق التي اعتقد أنها ستكون وثيقة دامغة بيده في يوم من الأيام، خصوصاً أنها أوراق حكومة فلسطين التي تحكمها بريطانيا العظمى وليست من توقيع نصّاب عابر.
لا نحتاج إلى تلسكوب جيمس ويب، كي نرى ما كانت عليه الحياة قبل نكبتنا عام 1948، فالشواهد ما زالت حيّة وتصرخ بين أيدينا وتحت أبصارنا، وما حدث عام النّكبة الأولى ما زال مستمراً ويتكرَّر يومياً في صور شتى.
خلال كتابتي لهذا المقال، نُشر بيان موقّع من وجهاء قريتين في النقب، هما قريتا رخمة والبقار، وقّعه الشيخان هليِّل أبو جليدان وعطا الله الصغايرة، يعلنان رفضهما لمخطط التّهجير والترحيل لقريتيهما، ويناشدان أصحاب الضمير الوقوف إلى جانب سكان القريتين، إذ تعمل السلطات على ترحيلهم إلى منطقة عبده.
في الوقت ذاته، ولليوم الثالث على التوالي، تعمل قوات كبيرة من الشرطة وحرس الحدود والقوات الخاصة في تجريف أراضٍ ومحاصيل زراعية تابعة لعشيرة الأطرش في قرية الرويّس في النقب، وتعتقل وتعتدي بالضرب على كل من يحاول الوقوف في وجهها، النَّكبة مستمرة.
أتساءل أحياناً، هل لهذه الأوراق التي تركها جدِّي قيمة أمام القوة الغاشمة التي ما زالت تقتلع شعباً من تراب وطنه أمام بصر وسمع العالم؟
المملكة المتحدة لم تكن حيادية، بل شريكة بما حدث لشعبي ولجدّي ولوالدتي وأسرتهما الصغيرة والكبيرة وما زال يحدث، وأعتبر أن بريطانيا نصبَت على جدّي وأخذت منه قرضاً لحربها ولم تُعده، بل غدرَت به وبمئات الآلاف من أبناء شعبي بِخِسَّة ولؤم مثل أي نصّاب محترف، وسلّمت بقالته وبيته وأرضه على طبق من ذهب لحركة عنصرية إجرامية مع سبق الإصرار والترصّد.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Mohammad Abu Hussein:

    اه كم هي مؤلمة ذكرياتنا مع تاريخ وطننا المغتصب المسروق..قدر وطننا ان يخلق في وسط عربي متهالك مهزوم دوما عبر عقود طويلة.. وسط يمارس الانهزامية و الذل و الخيانة .. باع اخرته بدنياه .. و عاش نمطية الاستكانة و الاستسلام .. ولكن برب هذا الكون.. يقينا ستلفظ و تطرد فلسطين هذا المستعمر .. ليعود و يعيش حياة الذل في أوروبا و امريكا .. و النصر قادم بإذن الله ولو بعد حين ???

    1. يقول Hussein gadban:

      Every family has similar story, for this reason I never fly British Air Ways and would never visit England . Our catastrophe was planed by the Zionist and it was aided by the British and Arab traitors,

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    ” أتساءل أحياناً، هل لهذه الأوراق التي تركها جدِّي قيمة أمام القوة الغاشمة التي ما زالت تقتلع شعباً من تراب وطنه أمام بصر وسمع العالم؟ ” إهـ
    سؤالك مشروع يا أستاذ! والجواب في كلمة واحدة:
    المقاومة بكافة أنواعها, وهي مشروعة في العالم أجمع!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول كمال - نيويورك:

    ألا لعنة الله على الظالمين، لم يترك لنا القدر امتحاناً الاّ وادخلنا إلى جحيمه كأننا أنبياء ونحن لسنا سوى بشر مساكين ولا رسالة لنا غير أننا نريد أن نحيا بكرامة.

  4. يقول فاطمة كيوان:

    أبناء الوطن الذين شردوا
    وهجروا  عانوا  الامرين من ظلم الحكومات  في التعامل وسلبت حقوقهم في الحياه القانونية والمدنية وباتوا غرباء في ديارهم ولليوم فعلا نعاني من سياسة المصادرات والتهويد وخاصة ما يتعرض له البدو في الجنوب من هدم قرى وتجريف مساحات .ولكن الاصرار والعزيمة والثبات لدى الناس وأهل الأرض والمقاومة هي من تقض مضاجعهم فلا الكبار ماتوا ولا الصغار ينسون واكبر دليل مثل هذه الوريقات التي ما زلت تصر على  الاحتفاظ بها كحق من حقوق جدك  على الدولة. وعدم تقبل ابي لاستلام تعويض عن أرضه التي صودرت وبنيت عليها الشقق السكنية اليوم لكرمئيل . وهذا دليل على الاصرار والثبات
    وانه لن تلين العزائم . والفجر لا بد آت
    والنصر حليف المناضلين واهل الأرض وان طالت عتمة الزنازين…
    .

  5. يقول علي مناع:

    هذا المقال من ضمن مقالات عديدة اخرى كتبتها وتصلح ان تكون وثائق من تاريخ شعبنا حيث ان المعاناة تنتقل من جيل للى جيل بتفس الصور وبصور اخرى مختلفة

  6. يقول هاديه:

    من اروع ما قرأت يعطيك الف عافيه

  7. يقول سلام عادل(المانيا):

    تحية لالاستاذ سهيل وللجميع اعتقد ان من واجبك وواجب كل فلسطيني له وثائق مهما تكون قيمتها في نظره ربما ستكون يوما لها تاثير قانوني على بريطانيا وكذلك على اسرائيل المهم هو كيف يمكن ان نجعل من صورة او صك او فاتورة او اي وثيقة ضدرت قبل ولادة اسرائيل سلاح مهم

  8. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي سهيل كيوان. النكبة مستمرة طالما توجد أنظمة الإستبداد والقمع والمقاولة والتطبيع! والمقاومة مستمرة والثورة مستمرة إن شاء الله.

  9. يقول احمد العربي:

    انت ضارب في عمق الارض، ارضك وارض اجدادك. اما الاحتلال فالى زوال، عاجلا ام آجلا. تحيا فلسطين حرة عربية.

  10. يقول Azou Novic:

    لديك وتائق ثبوتية. اذن انت لك حقوق تقدم إلى جميع المحاكم و الهيئات الحقوقية العالمية. و كذلك جميع من يملكون اي وثيقة. مسيرة الف ميل تبدا بخطوة .

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية