منذ عام 2016 حتى الآن أطاحت عملية انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي باثنين من رؤساء الحكومات، وثلاث من قيادات المعارضة. لكن الأهم من ذاك كله كان تمكين التيار القومي الذي أدى إلى استقطاب حاد داخل المملكة المتحدة بين القوميين المؤيدين للبقاء داخل الاتحاد في اسكتلندا وايرلندا الشمالية، والقوميين الانكليز الذين يقودون عربة الخروج من قضبان الاتحاد الأوروبي، وإعادة قرارات السياسة من بروكسل إلى لندن، وهو ما وصفه بعض المفكرين القوميين اليمينيين والرموز السياسية ومنهم رئيس الوزراء بوريس جونسون بأنه “استعادة السيادة” التي فقدتها بريطانيا منذ التحاقها بمشروع الوحدة الأوروبي.
عام 2020 شهد سقوط جيريمي كوربن من زعامة حزب العمال، وخروج ساجد جاويد أول وزير خزانة لبوريس جونسون من الحكومة، بعد مرور 204 أيام فقط في منصبه، بعد خلاف عاصف بين أحد مستشاريه ورئيس أركان دواننغ ستريت القوي دومينيك كامنجس أهم مستشاري جونسون حول نطاق وأولويات زيادة الإنفاق العام. كامنجس نفسه لم يكمل العام هو الآخر قبل أن يعلن استقالته، فكان ذلك بمثابة زلزال في دواننغ ستريت وفي هيئة الأركان السياسية التي تحيط برئيس الوزراء بوريس جونسون.
وتبدو عملية الانفصال متعسرة حتى الآن، وهي تراوح في مكانها بنسبة 50 في المئة بشأن التوصل إلى اتفاق لتنظيم التجارة بين الطرفين قبل نهاية العام. ومع أن بريطانيا خرجت رسميا من الاتحاد الأوروبي نهاية كانون الثاني/يناير الماضي، فإن اتفاق تنظيم العلاقات المستقبلية بين الطرفين لا يقل أهمية عن اتفاق الانفصال الذي تم إنجازه بالفعل. وسوف تجد بريطانيا نفسها مع نهاية العام الحالي وهي في وضع لا تحسد عليه سياسيا أو اقتصاديا، بعد أن خسر جونسون حليفه الرئيسي في البيت الأبيض في واشنطن، وبرهنت تطورات انتشار وباء كورونا وظهور سلالة جديدة، انها ستكون في وضع أسوأ، تواجهه وحدها، بدون الحليف الأمريكي وخارج الاتحاد الأوروبي. كما أن دول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا أخذت تجهز خططا بديلة بهدف تقليل خسائر انفصال بريطانيا إلى أدنى حد. ومع ذلك فإن فرص التوصل إلى اتفاق تجاري ينظم العلاقات بين الطرفين ما تزال قائمة، وهي في رأيي أقوى من فرص الانفصال بدون اتفاق، بدافع الخوف من الخسائر في الاتجاهين. وسوف يخرج الاتفاق المتوقع على الأرجح بعد انتهاء إجازات الكريسماس، وقبل بداية العام الجديد، إلا إذا استلزم الأمر تمديد العمل بإجراءات المرحلة الانتقالية حتى يتم التوصل إلى اتفاق نهائي في كانون الثاني/يناير 2021.
تحدي كوفيد – 19
القضية الكبرى الثانية التي أسهمت في تشكيل الحياة السياسية في بريطانيا عام 2020 تمثلت في فشل الحكومة في الحرب على فيروس كوفيد – 19 وتبادل الاتهامات بين الحكومة وخبراء الصحة بشأن المسؤولية عن هذا الفشل بعد أن ارتفع المتوسط اليومي للزيادة في عدد الإصابات إلى ما يقرب من 40 ألف حالة، وزيادة العدد اليومي للوفيات إلى حوالي 750 قبل احتفالات أعياد الكريسماس. وزاد من حدة المأساة القرارات الذي اتخذتها عدد من دول العالم بعزل بريطانيا ووقف الحركة عبر الحدود البحرية والبرية والجوية، الأمر الذي آثار مخاوف شديدة من تأثير عدم كفاية إمدادات الغذاء والدواء في فترة حرجة جدا. وحذر عدد من سلاسل متاجر السلع الغذائية والاستهلاكية من خطورة الموقف، وذكر مسؤولوها أن أرفف المحلات تبدو خاوية من احتياجات المستهلكين، بما في ذلك السلع الضرورية اليومية وأهمها الغذاء، بسبب توقف حركة الشاحنات عبر الحدود. وفي هذه الظروف الصعبة قررت قيادة الاتحاد الأوروبي مراجعة القرارات التي كان قد تم إعلانها بإغلاق الحدود مع المملكة المتحدة، والسماح باستئناف حركة الشاحنات ونقل السلع، وكذلك السماح باستئناف حركة السفر الضرورية عبر الحدود، لتمكين المواطنين من العودة إلى بلادهم لقضاء إجازات الكريسماس.
وتبدو بريطانيا في موقف صعب من الناحية الصحية بعد اكتشاف سلالة جديدة من فيروس كوفيد – 19 سريعة الانتشار والعدوى عن السلالة الأصلية بنسبة تصل إلى 70 في المئة، وهو ما سيزيد الضغوط على نظام الرعاية الصحية ومستشفيات الطوارئ حتى يتم التأكد من القدرة على محاصرة الفيروس ووضعه داخل نطاق السيطرة، وهي مهمة صعبة جدا باعتراف وزير الصحة البريطاني مات هانكوك. كذلك فإن بريطانيا لا تبدو مؤهلة ماليا لمواجهة إغلاق وقائي جديد بكل تداعياته الاقتصادية.
زلزال في حزب العمال
بعد أن أمضى خمس سنوات في زعامة المعارضة داخل مجلس العموم بوصفه زعيم حزب العمال، تم إقصاء جيريمي كوربن من زعامة الحزب والمعارضة بعد أن قاد حزبه إلى هزيمة تاريخية كانت الأقسى منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، فحصل العمال على 203 مقاعد فقط في مجلس العموم، بخسارة 59 مقعدا، كما تراجع نصيبهم من التصويت الشعبي إلى 32.2 في المئة فقط. وفاز بقيادة الحزب السير كير ستارمر الرئيس السابق لسلطة الإدعاء العام في إنكلترا وعضو مجلس العموم، الذي كان يشرف على ملف مفاوضات بريكست في حكومة الظل العمالية. ويمثل فوز ستارمر، الذي يفتقد إلى قوة الكاريزما القيادية، انتصارا لتيار الوسط داخل حزب العمال، الأمر الذي أدى عمليا إلى نوع من التعايش القَلِق والمتوتر بين الوسط واليسار داخل الحزب. ومع أن ستارمر يعمل على خلق توازن هادئ بين التيارين، فإن المعارضة العمالية ما تزال تقاتل داخل خندق ضيق، وإن كان في استطاعتها التقدم اعتمادا على الإخفاقات التي تعرض لها بوريس جونسون خصوصا في ميدان مكافحة فيروس كوفيد – 19، حيث احتلت بريطانيا المركز السادس بين دول العالم والثاني في أوروبا من حيث عدد المصابين بالفيروس.
وبسبب تداعيات فترة قيادة كوربن، والتردد بشأن موقف الحزب من الإنفصال عن الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى التغيرات الاقتصادية العميقة التي تمر بها بريطانيا، من حيث التحول من الاقتصاد التقليدي إلى الإقتصاد الرقمي، فإن حزب العمال أصبح في حاجة شديدة إلى تجديد نفسه، والبدء في إعادة النظر في استرتيجيته القديمة بناء على الأوضاع الجديدة، خصوصا احتياجات النمو بعد جائحة كورونا، ليس فقط من زاوية تحسين الخدمات الاجتماعية، ولكن أيضا من زاوية ضرورة إقامة بنية أساسية تكنولوجية تساعد بريطانيا على التحول بسهولة من الاقتصاد التقليدي إلى الرقمي، خصوصا في موطن الصناعات التقليدية في شمال ووسط إنكلترا. إن مخاطر الرؤية السياسية المهزورة، التي لم يتخلص منها حزب العمال تماما، ستظل تضغط على الحزب من الداخل ومن الخارج، ويمكن ان تؤدي إلى تعميق أزمته، وهذا ما دعا توني بلير الزعيم الأسبق للعمال إلى توجيه رسالة قوية إلى الحزب بضرورة أخذ مهمة تجديد نفسه على محمل الجد، وإلا فإن التطورات السلبية يمكن أن تقذف به إلى “مزبلة التاريخ” حسب التعبير الذي استخدمه.
هل يفيق الأحرار الديمقراطيون؟
تعرض حزب الأحرار الديمقراطيين لهزيمة مدوية في الانتخابات الأخيرة، وخسر أكثر من نصف مقاعده في مجلس العموم، فحصل على 11 مقعدا فقط مقارنة بـ 21 قبل الانتخابات، واستحوذ على 12 في المئة فقط من أصوات الناخبين. وما يزال الحزب يدفع ثمن تحالفه الانتهازي مع ديفيد كاميرون، حيث ساعد المحافظين على تخفيض الإنفاق العام وزيادة أعباء التقشف، خصوصا على الفقراء ومتوسطي الدخل. ولم تفلح جو سوينسون في تحسين وضع الحزب سياسيا خلال فترة قيادتها القصيرة، حيث أظهرت قدرا كبيرا من السذاجة السياسية، وطرحت شعارات انتخابية وأطلقت وعودا سياسية أثرت سلبا على مصداقية الحزب في الشارع. وبعد سقوط سوينسون المدوي وخسارتها لمقعدها في مجلس العموم قدمت استقالتها من قيادة الحزب، وجرت منافسة على الموقع، ففاز به السير إد دايفي الذي تولى تصريف أعمال الحزب حتى تم تنصيبه رسميا بعد فوزه على منافسته ليلى موران التي كانت تتمتع بتفاهم سياسي واضح جدا مع سوينسون، تماما كما كانت ريبيكا لونجغ – بايلي قريبة سياسيا إلى حد كبير مع جيريمي كوربن، فخسرت هي الأخرى في المنافسة على زعامة العمال ودفعت ثمن قربها من كوربن.
ويدعو السير إد دايفي إلى ضرورة إصلاح الحزب، لكنه لم يظهر حتى الآن الكفاءة اللازمة، لتحقيق الغرض. ويواجه الأحرار الديمقراطيون تحدي التغيرات التي تجتاح العالم، وتتطلب رؤية سياسية جديدة للتعامل معها.
حكومة جونسون على المحك
سيواجه بوريس جونسون عاما صعبا، بعدما تعرض له المحافظون من انشقاقات، واستقالة دومينيك كامنجس الذي كان يلعب مع جونسون دور ستيف بانون مع دونالد ترامب، إضافة إلى تأثير تضاؤل نفوذ القيادات التقليدية للحزب، ونمو تيار الاستقلال في اسكتلندا، وكذلك في ايرلندا الشمالية، وزيادة الضغوط الاقتصادية والصحية بسبب تداعيات كورونا، وتحدي مواجهة العالم بعد إنهاء العلاقات التاريخية مع الاتحاد الأوروبي، حتى بافتراض التوصل إلى اتفاق تجاري، وخسارة الحليف الرئيسي في الولايات المتحدة، والتغيرات التي تجتاح العالم وأهمها التحدي الصيني التكنولوجي والعسكري والاقتصادي والسياسي. ما يساعد جونسون في مواجهة هذه التحديات هو ضعف خصومه، وليس قوته، لكنه في حال نمو قوة خصومه، سيكون في خطر حقيقي.