في قمتها الـ 16 خطت مجموعة بريكس الخطوة الأولى على الطريق لتصبح مركزا من مراكز القوة في عالم متعدد الأقطاب. هي مركز اقتصادي مهم، لكنها ما تزال تفتقر إلى عناصر القوة الكاملة لتكون منافسا حقيقيا في ساحة صنع القرار على المستوى العالم. لكن الحلم الذي يراود شي جينبينغ، وبوتين، ومودي، ودا سيلفا، ورامافوزا، بأن ينتقل العالم من نظام القطب الواحد إلى نظام متعدد الأقطاب أصبح بعد تلك القمة أقرب من أي وقت مضى. البيان الختامي الصادر عن القمة أو ما أُطلِق عليه: «إعلان قازان» تضمن التأكيد على أن مراكز جديدة للقوة، وصنع القرار السياسي، والنمو الاقتصادي، آخذة في الظهور في العالم، ما يمهد الطريق لنظام عالمي متعدد الأقطاب، أكثر إنصافًا وعدالة وديمقراطية وتوازنًا، يوفر المزيد من الفرص للأسواق الناشئة والدول النامية للاستفادة من العولمة الاقتصادية الشاملة والمفيدة عالميًا. بريكس في نسختها الجديدة أصبحت تضم 9 دول، بعد أن كانت تضم 4 فقط عند تأسيسها عام 2009 وانضمت إليها الدولة الخامسة، جنوب أفريقيا، في عام 2010. يجب أن نلاحظ هنا أن تأسيس بريكس قد جاء في أعقاب الأزمة الاقتصادية عام 2008. هذه القمة لم تشهد فقط مضاعفة عضوية المجموعة تقريبا، بانضمام إيران ومصر والإمارات وإثيوبيا، ولكنها شهدت أيضا تعديل نظام العضوية، بإنشاء ما يمكن تسميته «بريكس +» يضم مع الأعضاء الدول الأخرى التي تقدمت بطلبات عضوية، باعتبارها «شركاء» حتى يتم البت في تعديلات شروط العضوية حسبما طالب الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، الذي طلب ألا تحصل دولة يفتقر نظامها لقواعد الشرعية الدولية، مثل نظم الانقلابات العسكرية، أو النظم التي تقوم على تزوير الانتخابات. دا سيلفا لم يشارك في القمة، لأنه يعالج من تداعيات حادث سقوط على الأرض، أدى إلى نزيف في الرأس، كما قال طبيبه. ومع انعقاد القمة بلغ عدد الدول المتقدمة لعضوية المجموعة 47 دولة. ومن المرجح أن يضم الهيكل الجديد للمجموعة 11 دولة إضافية لتصبح شركاء، مع استمرار التعاون وفق صيغة خاصة مع بقية الدول وتوسيع نطاق هذا التعاون مع دول أخرى.
في الـ 15 عاما الماضية ساعد وجود بريكس، وتفاعلها مع قضايا العالم على ظهور تيار عالمي جديد في دول الجنوب، أو الدول النامية، الصاعدة الآخذة في التصنيع والدول الفقيرة، ينطلق من مصالحها في إقامة نظام اقتصادي وسياسي عالمي أكثر عدالة. وقد بلور الإعلاميون وخبراء السياسة مصطلحا يعبر عن هذا التيار هو مصطلح «الجنوب العالمي». هذا التيار يدافع عن الحرية الاقتصادية ويعارض النزعة الحمائية، ويدعو إلى تحرير المعاملات الاقتصادية من الشروط المجحفة، وعدم تسييس الدولار والتجارة والتكنولوجيا، وعدم تحميل الدول النامية تكلفة «النمو الأخضر» لأن الدول الصناعية الغربية هي المسؤولة عن تلويث البيئة. هذه التغيرات المناخية الحادة من صنع تلك الدول، تدفع ثمنها الدول النامية، خصوصا الدول الفقيرة التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي. وقد وجدت دول الجنوب أن السياسات الاقتصادية المتحيزة لمصالح دول الشمال الصناعية تمثل عقبة صعبة أمام طموحات التنمية، خصوصا مع الإفراط الأمريكي في استخدام أسلحة العقوبات الاقتصادية، والحظر المالي والتجاري ضد الدول التي تخالف الولايات المتحدة سياسيا. وكانت روسيا وإيران والصين وكوريا الشمالية وفنزويلا نماذج واضحة لكيفية لجوء الولايات المتحدة إلى تسييس وعسكرة علاقاتها الاقتصادية مع العالم. وخلال عقد ونصف العقد من الزمان تأكد يوما بعد يوم أن مجموعة «بريكس» ما تزال مجموعة اقتصادية بالأساس، تحاول البحث عن نظام اقتصادي أكثر عدالة وأقل إقصاء ضد الآخرين، وتعبر بحق عن رغبة «الجنوب العالمي» في أن تشارك دوله على أساس المساواة في النظام الاقتصادي العالمي، الذي ما تزال تتحكم فيه الولايات المتحدة والدول الصناعية الغربية.
وتتمتع المجموعة بمزايا اقتصادية هائلة، يمكن أن تساعدها على تعديل شروط التفاعل من خلال النظام العالمي القائم على الرغم من الاختلالات الشديدة التي يعاني منها. وطبقا للنظام الجديد للعضوية، الذي يستهدف توسيع نطاق بريكس من خلال دعوة دول أخرى لتصبح «شريكا» في المجموعة وليس «عضوا» مثل ماليزيا وتايلاند ونيجيريا وبوليفيا وصربيا وتركيا، فإن عدد سكان بريكس يقترب من نصف سكان العالم. ولا غرابة في ذلك وهي تضم أكبر دولتين في العالم من حيث عدد السكان هما الهند والصين. وتستحوذ بريكس الموسعة على ما يقرب من ثلث مساحة العالم. كما أنها بعضويتها الحالية تستحوذ على ما يقرب من ثلث الناتج العالمي، مع ملاحظة أن الصين وحدها تستحوذ على 70 في المئة تقريبا من الناتج داخل المجموعة. كذلك فإن بريكس تسهم بما يقرب من خُمس قيمة التجارة العالمية، وتحتفظ بما يقرب من خُمس الاحتياطيات المالية العالمية.
وباعتبارها ممثلة للأسواق الناشئة والدول النامية، تشهد دول مجموعة البريكس نمواً اقتصادياً سريعاً مصحوباً بطلب كبير على الطاقة. ومع ذلك، تواجه هذه الدول تحديات متعددة، بما في ذلك تغير المناخ العالمي، وأمن إمدادات الطاقة، والتلوث البيئي، ما يجعل من المستحيل عليها في الأساس اتباع نموذج التنمية المعتمد على الوقود الأحفوري، الذي استخدمته بعض الدول الغربية في الماضي. وهذا هو السبب أيضاً وراء احتياج دول مجموعة البريكس الآن إلى اتباع مسار تنمية أكثر خضرة، وأقل انبعاثات للكربون يتناسب مع ظروفها الوطنية الفريدة من خلال التعاون والابتكار. في هذا السياق فإن الصين، التي تحتل المكانة الأولى في صناعة الطاقة المتجددة وفي إنتاجها عالميا، يمكن أن تلعب دور الرافعة القوية لتطوير صناعات الطاقة الجديدة في دول بريكس، وتعزيز ما أسماه جينبينغ «التنمية عالية الجودة» بديلا للمصطلح الغربي «التنمية المستدامة» أكثر منه شمولا وتأكيدا على الطابع الاجتماعي للتنمية.
حماية مصالح دول بريكس
إضافة إلى تعزيز محركات التنمية الداخلية في دول بريكس وتوسيع نطاق التعاون بينها، فإن أهداف المجموعة تتضمن أيضا السعي المشترك من أجل حماية مصالحها الاقتصادية في المعاملات مع العالم. ويمثل نموذج العلاقات الذي فرضته الولايات المتحدة والدول الغربية على روسيا خرقا صارخا لقواعد القانون الدولي والعلاقات السلمية بين الدول. في هذا النموذج يقدم العالم الغربي عسكرة وتسييس العلاقات مع الدول التي تختلف معها على أي اعتبارات أخرى. وقد وافقت مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى بقيادة الولايات المتحدة على استخدام فوائد الأرصدة المالية الروسية المجمدة في البنوك الغربية في تمويل شراء أسلحة لأوكرانيا تستخدمها في الحرب ضد روسيا. وكان اقتراح استخدام الفوائد المستحقة لروسيا قد تعرض لانتقادات واعتراضات قانونية، لكن تمت الموافقة عليه مبدئيا في قمة الدول الصناعية في صيف العام الحالي. ومن المقرر البدء في تنفيذه رسميا قبل نهاية الشهر الحالي، وذلك في إطار برنامج تمويلي لمساندة أوكرانيا بقيمة 50 مليار دولار.
وأعلنت المفوضية العليا للاتحاد الأوروبي أنها بصدد استخدام فوائد الأرصدة المالية الروسية المجمدة (192 مليار يورو) في تمويل مشتريات أسلحة لأوكرانيا بحوالي 1.7 مليار دولار. كما أعلنت بريطانيا أنها بصدد تقديم قرض لأوكرانيا بقيمة 2.26 مليار جنيه إسترليني للغرض نفسه، على أن يتم سداد أقساط وفوائد هذا القرض من أرباح الأرصدة الروسية المجمدة. وحسب أرقام بنك «يوروكلير» الذي يتولى تسوية المدفوعات الأوروبية، فقد حققت أصول روسيا 1.55 مليار يورو في الفترة من 15 شباط/فبراير إلى 30 حزيران/يونيو. واحتفظت المؤسسة المالية بنحو 10 في المئة من حصيلة الفوائد كتأمين ضد المخاطر القانونية والمالية.
هذا السلوك الغربي تجاه روسيا يكشف الترابط القوي بين رغبة روسيا ودول أخرى في بريكس مثل إيران في إقامة نظام بديل لتسوية مدفوعات التجارة والمعاملات المالية العالمية، وبين إفراط الولايات المتحدة في تسييس الدولار، وعسكرة العلاقات الدولية. ومن هنا فإن أحد أهم الأهداف التي يسعى الرئيس الروسي إلى تحقيقها هو إضعاف الدولار عالميا، وإيجاد بديل له، وذلك عن طريق تسوية المبادلات التجارية والمعاملات المالية باستخدام العملات المحلية. وهناك قدر كبير من التوافق داخل المجموعة على زيادة دور بريكس في النظام المالي الدولي، وتطوير التعاون بين البنوك، مع توسيع دور بنك التنمية الجديد في تمويل مشروعات البنية الأساسية المشتركة والإقليمية، إضافة إلى تعزيز التعاون بين السلطات الضريبية والجمركية. ومن البديهي أن نضيف إلى ذلك أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد وجد في انعقاد أكبر قمة لمجموعة بريكس في تاريخها على أرض روسية فرصة كبيرة في توجيه رسالة ضمنية إلى الولايات المتحدة بأن حملة العقوبات والمقاطعة الأمريكية قد فشلت، ولا قيمة لها.
كذلك فإن الولايات المتحدة فرضت عقوبات ثانوية على كل من الصين وإيران بسبب مخالفتهما قوانين العقوبات ضد روسيا. وتضمن ذلك فرض عقوبات على شركتين مقرهما الصين وشركائهما التجاريين المزعومين في روسيا، متهمة إياهما بتزويد روسيا بأنظمة أسلحة كاملة لحربها في أوكرانيا. كما وجهت واشنطن اتهامات إلى الصين بالتورط في إرسال مواد ذات استخدام مزدوج مثل أدوات صنع الآلات وأشباه الموصلات إلى روسيا، ولكن ليس أسلحة كاملة. وقالت وزارة الخزانة الأمريكية إن الصين وروسيا تعاونتا لإنتاج سلسلة «غاربيا» من الطائرات بدون طيار بعيدة المدى. وتفرض الولايات المتحدة عقوبات واسعة النطاق على إيران ودول أخرى بحجة مساعدة روسيا. ومن شأن تعزيز دور بريكس عالميا أن يساعد على التصدي للعقوبات الأمريكية و منهج تسييس وعسكرة العلاقات الخارجية.
أدوات التنمية
يعتبر بنك التنمية الجديد، الذي تأسس عام 2015 وله فروع في الدول الأعضاء، أحد أهم الأدوات التنموية لمجموعة البريكس. وهناك فرق جوهري بين قواعد وسياسة بنك التنمية الجديد والمؤسسات المالية الائتمانية الغربية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وأمثالهما. وعلى النقيض من البنوك الغربية، لا يضع بنك التنمية الجديد شروطاً في إطار السياسة المحلية. ويمكن لأي دولة تقريباً الانضمام إلى بنك التنمية الجديد من خلال طلب الاستثمار لبناء مشاريع بعملتها الوطنية. على سبيل المثال، قدم بنك التنمية الجديد، الذي أنشأته مجموعة البريكس، مساهمات كبيرة في تطوير البنية التحتية والنمو المستدام في البلدان النامية، كما حقق إنشاء مركز شراكة مجموعة البريكس للثورة الصناعية الجديدة في شيامن (في الصين) نتائج ملحوظة في مجال التواصل السياسي وتطوير المشاريع وتدريب المواهب. وتبلغ قيمة المشروعات (100 مشروع تقريبا) التي وافق البنك على المشاركة في تمويلها أكثر من 34 مليار دولار. وتغطي هذه المشروعات أولويات تنموية تم الاتفاق عليها تحقق أهداف التنمية الخضراء ذات النوعية العالية. ومن أهم المجالات التي يعمل البنك على تمويلها البنية الأساسية الإقليمية ومشاريع الطاقة الخضراء والتكنولوجيا وتنمية الاقتصاد الرقمي. ونظرا لأن تمويل المشروعات المتفق عليها يتم باستخدام العملات المحلية للدول الأعضاء، فإن هذا الأسلوب يقلل الضغوط على حصيلة النقد الأجنبي واحتياطيات البنوك المركزية. في البرازيل على سبيل المثال يقوم بنك التنمية الجديد بمساعدة البنوك البرازيلية ضد سلاح الدولار الأمريكي. ومن المعروف أنه إذا فقدت العملة الوطنية لدولة معينة نسبة من قيمتها مقابل الدولار، فإنها تضطر إلى دفع فائدة أعلى على قروضها. وقد تلقت البرازيل من بنك التنمية الجديد استثمارات بقيمة 4 مليارات دولار أمريكي لمشاريع بناء وإعادة بناء الطرق السريعة والموانئ. ومن المتوقع أن يلعب نظام التسويات المالية الجديد لمجموعة البريكس دورًا مهمًا أيضًا. هذا النظام ليس جذابا فقط للدول الخاضعة للعقوبات، ولكن أيضًا للدول التي تعاني من عجز تجاري، والتي تواجه صعوبة في الوصول إلى الدولار، مما يؤدي إلى انخفاض قيمة العملات المحلية وإضعاف هياكل الأعمال.
إقامة نظام بديل للمدفوعات
اقترح الرئيس الروسي بوتين تأسيس منصة مالية جديدة لمجموعة بريكس لدعم الاقتصادات الوطنية لتؤمن الموارد لدول الجنوب العالمي والشرق، لافتًا إلى مناقشة مبادرات في هذا السياق والموافقة عليها. وتابع: «الحديث يدور الآن عن القيمة المضافة وزيادة التجارة الإلكترونية والتعاون في المناطق الاقتصادية الخاصة، على مسار إقامة منظومة أكثر عدالة وبقواعد واضحة لكل الدول». وأضاف الرئيس الروسي في كلمته التي ألقاها في افتتاح قمة بريكس الـ 16: «سننظر في تعاون دول بريكس مع منظمة التجارة العالمية، وكذلك النظر إلى المنظومة الاقتصادية بحيث نتمكن من تخطي كل الصعوبات». وقال بوتين إن تأسيس منصة مالية جديدة لمجموعة بريكس لدعم الاقتصادات الوطنية؛ ودعم الموارد المالية لدول الجنوب العالمي والشرق. ومن أوكرانيا أن الولايات المتحدة حظرت على روسيا استخدام نظام «سويفت» العالمي لتسوية المدفوعات. وأدى ذلك إلى توقيع اتفاقيات تجارية بنظام المقايضة أو عن طريق استخدام العملات المحلية في تسوية المدفوعات. ومع التوسع في استخدام هذا النظام يخسر الدولار تدريجيا مكانته في النظام العالمي للمدفوعات.
وطبقا لتصريحات أدلى بها منسق مجموعة أبحاث البريكس في جامعة ولاية ساو باولو، البروفيسور ماركوس كورديرو بيريس إلى صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية، فإن البرازيل تواجه مشاكل بسبب العقوبات الأمريكية، التي تؤثر على النظام المالي الدولاري بأكمله. على سبيل المثال، لم يتمكن البرازيليون من دفع ثمن السفن الإيرانية التي وصلت إلى ميناء باراناغوا في عام 2019 على الفور.
وفي واقعة أخرى رفضت شركة بتروبراس (عملاق النفط البرازيلي) الموافقة على طلب تزويد طائرة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بالوقود، عندما يتوجه إلى اجتماع مجموعة العشرين في ريودي جانيرو الشهر المقبل. كما أبدى الأستاذ الجامعي البرازيلي قلقه إزاء التصريحات الأخيرة للمرشح الرئاسي دونالد ترامب، الذي هدد بفرض رسوم جمركية على السلع الآتية من الدول التي تتوقف عن استخدام الدولار. وقال كورديرو: «يتم استخدام الدولار كسلاح سياسي. وهذا يثير نقاشات حول الحاجة إلى إيجاد بدائل لهذا الوضع، لأن هذا يحدث اليوم لروسيا، وقد يحدث لي غدًا».