المؤلف الأول، لوك أرونديل، باحث في «المركز الوطني للبحث العلمي» CNRS، أحد أرفع مراكز الأبحاث الفرنسية؛ وزميله المؤلف الثاني، ريشار دوتوا، باحث في «الكونسرفاتوار الوطني للفنون والمهن» CNAM، في عداد المؤسسات الأهمّ التابعة لوزارة التعليم العالي؛ وكلا المؤلفين مختص بالاقتصاد والمال والأعمال، يديران مختبر أبحاث متعدد النُظُم ومركزاً ثانياً لدراسات العمل والتوظيف؛ ولا علاقة فنية أو نقدية تجمعهما بكرة القدم. لكنهما أصدرا سنة 2020 كتاباً بالفرنسية عنوانه «على غرار الصبيان: اقتصاد كرة القدم النسائية»؛ وكتاباً ثانياً صدر مؤخراً بالفرنسية أيضاً، يطوّر مساهمة سابقة تعود إلى عام 2018 بعنوان «أموال كرة القدم»، في جزء أول تناول أوروبا.
وهذا عمل يتصف بأهمية خاصة لأسباب عديدة، لعل أبرزها في يقين هذه السطور أن مقاربة أرونديل ودوتوا لا تسير على منوال السائد المتفق عليه عموماً، حول كرة القدم بوصفها ميدان «بزنس» من العيار الثقيل؛ بل تساجل بأن تقاليد الشركات الرأسمالية المعاصرة لا تترك لهذه الرياضة هوامش منافسات ربحية عالية كما قد يذهب الظن، وذلك رغم عشرات المليارات التي تجنيها المباريات والمسابقات ودورات المونديال، أو التي تُصرف على شراء اللاعبين خلال مواسم الانتقالات بين الأندية. الكتاب لا ينزّه الرساميل والشركات ومؤسسات المال الكبرى عن الاستثمار، الكثيف والثقيل، في ميادين كرة القدم المختلفة؛ لكنه يسعى إلى وضع هذه الأنشطة في سياقات مقارِنة تتيح تلمّس مؤشرات ملموسة أكثر تبياناً لطبائع «البزنس» الفعلية في عوالم الأطوار الراهنة من هيمنة رأس المال واقتصاد السوق وقوانين العرض والطلب والمنافسة.
على سبيل المثال، من واقع كرة القدم الاحترافية الفرنسية: في سنة 2018 ـ 2019 بلغ حجم معاملاتها المالية أكثر قليلاً من مليارَي يورو (2.117 مليار، لـ40 نادياً)، بينها 1.9 مليار لأندية الدرجة الأولى التي تعدّ 20 نادياً؛ وفي المقابل، كانت أكبر الشركات الفرنسية قيمة في البورصة، تأمين AXA، قد حققت خلال السنة ذاتها أكثر من 50 ضعفاً بالمقارنة مع اتحاد الكرة الفرنسي؛ وأمّا شركة Uber Eats، منصة توزيع الأطعمة الجاهزة التي تُشرك اسمها في رعاية البطولة الفرنسية، فقد سجلت أرباحاً بقيمة 1.4 مليار يورو خلال سنة 2019. وعلى مستوى أوروبي، خلال سنة القياس ذاتها، كانت الحسابات المجتمعة للبطولات الخمس الأكبر في حدود 17 مليار يورو، أي أقل من حجم الأرباح التي كدستها شركة اليانصيب الفرنسية.
من جانب آخر، إذا كانت أندية كرة القدم بمثابة «أقزام» اقتصادية بالمقارنة مع الشركات الرأسمالية الكبرى، فإنها «عمالقة» على المستويات الإعلامية وفي وسائل الميديا المختلفة، حسب تعبير أرونديل ودوتوا. الأندية الثلاثة الأكثر «شعبية»، والمزدوجات من المؤلفين، أي ريال مدريد وبرشلونة ومانشستر يونايتد، هي أيضاً الأندية الأغنى حسب تصنيف «رابطة أموال كرة القدم»؛ وها هي أرقام التعاملات المالية: ريال مدريد، 757 مليون يورو؛ برشلونة، 852 يورو؛ مانشستر يونايتد، 627 مليون يورو؛ وهذه الأندية الكبيرة العريقة، ذات الجاذبية العالمية الواسعة، لا تنافس اقتصادياً شركة أثاث وتجهيزات منزلية مثل «كونفوراما»، الراعي السابق لأندية الدرجة الأولى الفرنسية، التي حققت معدلات أرباح أعلى من الأندية الثلاثة مجتمعة.
النادي يمكن أن يمتلك رصيداً جماهيرياً، وسجلاً حافلاً بالانتصارات، واحتشاد المشاهدين في المدرجات، والثبات على مستوى راسخ في المنافسة؛ لكن هذا كله، وسواه أيضاً، لا يوحد بالضرورة ثنائية الفوز على أرضية الملعب والأرباح في شباك التذاكر
وفي عودة إلى الفرضية المركزية لنظرية الشركة الرأسمالية (النيو ـ كلاسيكية، ولكن الحديثة والمعاصرة أيضاً)، يذكّر المؤلفان بأنها كانت وتبقى تضخيم الأرباح قدر الإمكان؛ الأمر الذي يقودهما إلى الاستنتاج بأن كرة القدم ليست من ذلك الطراز، الذي يوفر عناصر الزيادة في المبيعات أو التوسع أو الوثوق بالمنتج، وما إلى ذلك. النادي يمكن أن يمتلك رصيداً جماهيرياً، وسجلاً حافلاً بالانتصارات، واحتشاد المشاهدين في المدرجات، والثبات على مستوى راسخ في المنافسة؛ لكنّ هذا كله، وسواه أيضاً، لا يوحّد بالضرورة ثنائية الفوز على أرضية الملعب والأرباح في شباك التذاكر. وهذه حال يناقشها المؤلفان بتفصيل أوسع، وأمثلة كثيرة مدهشة في دلالاتها، على مدار ملفات ثلاثة: أولئك الذين يملكون، أو «المليارديرات في لباس الشورت»؛ وأولئك الذين يموّلون، أو الأثرياء والمشاهير؛ وأولئك الذين يلعبون، أو جماعة «إبذلْ أكثر لتربح أكثر».
حول الملف الأول، وعلى سبيل المثال من فرنسا أيضاً، كانت الأندية خلال ثلاثينيات القرن المنصرم ملكية للشركات الصناعية بصفة رئيسية، أمثال «بيجو»، التي امتلكت نادي سوشو؛ وشركة المناجم، صاحبة نادي لانس؛ وشركة كازينو، مالكة سانت إتيان. وأما في حقبة 1980 ـ 1990 فإن شركات انتاج المرئي/ السمعي هي التي استثمرت في كرة القدم الفرنسية: Canal+ في باريس سان جيرمان، وM6 في بوردو. وأما اليوم، في فرنسا كما في أوروبا، فإن غالبية الأندية باتت ملكية أشخاص أفراد، مادياً أو اعتبارياً، وطبقاً لاتحاد الكرة الأوروبي فإن نسبة 50٪ من أندية النخبة تخضع لهذه الحال. وعند النظر في الترسيم السوسيولوجي لمالكي أندية الدرجة الأولى، يتضح أن السيرورة الأعم تعتمد على توظيف رأس المال، وليس تشغيل «شركة» بالمفهوم الاقتصادي سالف الذكر؛ مع إشارة هامة إلى أن بعض مالكي الأندية يديرون، بالفعل، شركات رأسمالية مزدهرة في قطاعات صناعية وتجارية أخرى.
وفي ملفّيْ التمويل واللعب، لا تختلف الخلاصات جوهرياً لجهة تأكيد ما يفترضه أرونديل ودوتوا حول «بزنس» الشركة الرأسمالية المعاصرة الأشطر من أي استثمار في ميادين كرة القدم، وهما يقتبسان عبارة اللاعب الهولندي الشهير يوهان كرويف («لماذا لا نستطيع هزيمة فريق أغنى؟ لم أشهد حقيبة مليئة بالأوراق النقدية تسجّل هدفاً»)، ليطرحا التساؤل المزدوج التالي: أليس المال، على العكس، شرطاً ضرورياً أو حتى كافياً، للفوز؟ أم أن الانتصارات هي التي تسمح بكسب المداخيل؟ وإلى جانب الأموال الناجمة عن مناقلات اللاعبين، تنحصر مداخيل الأندية في أربعة مصادر: حقوق نقل المباريات، بيع التذاكر، تسويق البضائع، والرعاية المشتركة. وإذا كانت هذه قد خضعت، وتخضع منطقياً، لقانون المد والجزر والصعود والهبوط، فإن جوهر اشتغالها يظل مختلفاً عن نظائره في الشركات المعاصرة، خاصة في هذا الطور من عَوْلَمة رأس المال.
وفي قسم رابع ختامي من الكتاب، يُكرّس للجمهور والأنصار ومتابعي كرة القدم عموماً، يسوق المؤلفان عبارة من الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو (الذي كان ذات يوم حارس مرمى لفريق «راسينغ الجامعي» في الجزائر، أثناء الاحتلال الفرنسي): «سوى ملعب كرة قدم، ليس من مكان آخر في العالم يكون المرء فيه أكثر سعادة»؛ الأمر الذي لا يعني أن كتّاباً سواه لم يكونوا أكثر تشكيكاً في اللعبة، على غرار الأرجنتيني خورخيه لويس بورخيس الذي اعتبر أن «كرة القدم شعبية لأن الغباء شعبي»، معتبراً أن «22 فتى في بناطيل قصيرة يركضون خلف كرة واحدة، بينما يكفيهم أن يشتروا 22 كرة».
والحال أن «الصراع» من أجل الفوز في الملعب غير بعيد عن تشكيل مناسبة استثنائية تتيح للأمّة أن توظف طاقات أبنائها في قتال «نظيف» مع أمم أخرى قد تكون أكثر جبروتاً في جميع الاعتبارات، لكنها تخضع بالتساوي لقانون كوني واحد يضع المغرب على قدم المساواة مع فرنسا؛ كما يحيل ملعب كرة القدم إلى ما يشبه البرلمان الأمثل لاتحاد شعوب العالم، حيث تتساوى الشعوب في الخضوع لقوانين احتساب الهدف والخطأ وضربة الجزاء.
وبالطبع، حال كرة القدم أخطر كثيراً من اختزال كامو وبورخيس؛ وإنْ كانت أموالها، التي تُقدّر بعشرات المليارات، أقل قدرة على صناعة الـ»بزنس» من الشركات الرأسمالية المعاصرة، وأدنى شطارة» استطراداً.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
[يسوق المؤلفان عبارة من الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو (الذي كان ذات يوم حارس مرمى لفريق «راسينغ الجامعي» في الجزائر، أثناء الاحتلال الفرنسي): «سوى ملعب كرة قدم، ليس من مكان آخر في العالم يكون المرء فيه أكثر سعادة»] انتهاء الاقتباس
أخ صبحي حديدي، لدي على هذا الاقتباس ملاحظتان هنا:
أولا، ألبير كامو ليس فيلسوفا بالمعنى المتعارف عليه لهذه التسمية على الإطلاق، لا في هذه القرينة ولا في أيتما قرينة أخرى: الرجل له بعض الروايات، أو شبهها، التي يمكن أن يُقال عنها بأنها «روايات فلسفية» بمعنى من المعاني – ولكن حتى هذه «الروايات الفلسفية» لا يمكن أن تجعل منه “فيلسوفا” بالمعنى المعني بدورها هي الأخرى.
ثانيا، بالتأكيد «ملعب كرة القدم ليس المكان الأوحد الذي تتجلى فيه السعادة الأكثر» حتى يقول ألبير كامو: «سوى ملعب كرة قدم، ليس من مكان آخر في العالم يكون المرء فيه أكثر سعادة». ومن هنا، في حقيقة الأمر، فإن قول خورخيه لويس بورخيس بأن «كرة القدم شعبية لأن الغباء شعبي» لأكثر دلالةً فلسفيةً حقا من “قول” ألبير كامو ذاته.
داءما تكتب ما هو متميز وفق المناسبة.حقا لعبة كرة القدم لعبة الجميع من الفلاسفة والشباب. وهي لعبة فائدتها تفريغ شحنات التوتر النفسي للعدوان في كرة.ومن لا يحب كرة القدم فاشل في تطبيقات علم النفس .