مثل قط أعياه السكون فقام يمطط هيكله، قام هشام من مقعده يرافقه ألم الظهر. ترك الشاشة كما هي، تظهر عليها جداول «الإكسيل» اللعين ولوائحُه. كأنهم علموا عشقه للحروف فشغلوه بالجداول والأرقام. ودَّ لو منح نفسَه سراحًا مؤقتا في حديقة مجاورة. الجو ربيعي في عز الشتاء. هيهات. مغادرةُ البناية مسطرة مدنية واحتسابٌ للدقائق والأنفاس. تناول ملفا ليُرائيَ به الكاميرات المبثوثة في كل مكان، ثم سار يسعى بضعة أشواط بين الأروقة، يُحرك المفاصل الراكدة. مر قرب لوحة إشهار ذكَّرته بيافطة كان يرفعها حملةُ الشهاداتِ في مظاهراتهم أمام البرلمان: «التوظيف أو الممات» هل يعلمون أن التوظيف هو الممات البطيء؟ سيقول قائلهم «يا سيدي دعني أموت.. تعددت الأسباب والموت لا يخلف موعده»، لكنَّ الفهم واليقظة غالبا ما يُخلفانِ الميعاد.
مرَّ بمكتب بلقاسم؛ زميلٍ ينحدر من قرية غيرِ قريبة، ما زال شغوفا بالقراءة، رغم بُعد العهد ورتابة العمل. مرارا جمعتهما دردشاتٌ حول الثقافة وسنواتِ الحي الجامعي وجلجلةِ المفاتيح قرب المطعم لعل طالبا يزهدُ في وجبتِه ويبيعُ تذكرتَه. التفت بلقاسم ليجد هشام ينظر إليه من خلف جداره الزجاجي الكبير. كان مثل سمك ضخم في حوضِ هواء. أشار بلقاسم بيده وعاد لخشوعه أمام الحاسوب. خالَها هشام تحية عابرة ومضى، لكن باب المكتب انفتح فناداه صوت جهير دوى وسط الرواق «هشام.. تعال» بلقاسم لا يغض صوته ولو حضر الرئيس المدير العام. كانت النظارات على أرنبة أنفه، وبدا كمعلم يوبخ تلميذا لم يلتقط إشارتَه. استبشر هشام بحرارة بلقاسم الفطرية المعهودة. صافحَه ودخلا المكتب. بدل أن يغلق لوائح الإكسيل أطفأ الشاشة وقال بصوته الجهير دائما: «أف.. تبا للإكسِيل!» اختفت الجداول وتوارت. أحيانا عدمُ الوجدان يفيدُ عدم الوجود!
كان هشام طوقَ استراحة ألقِيَ إلى بلقاسم في غمار أشغالٍ لا تنتهي. ألح عليه في الجلوس، فقال هشام: «مِنَ الجلوس فررت..» فتح بلقاسم درجا عن يمينه ليأخذ مُشطا يوظب به لبدة شعره الكبيرة المتشعثة التي يهمل قصها من فرط الإرهاق. ولأن هشام كان واقفا، رمقت عيناه مجموعتَه القصصية نائمة في الدرج منذ اقتناها منه. عاتبَه لأنه لم يحملها إلى البيت. بالطبع لن يقرأها هنا في المكتب. أنى له وغيرُ خافٍ على أحدٍ إيقاعُ اشتغاله الهستيري. التفسير الوحيد هو عدم الاكتراث. نعم.. اقتناها منه بلقاسم تطييبا للخاطر فحسب. طفق بلقاسم يعتذر مبتسما:
«- إسمع.. لم أهملها معاذ الله.. ولكن كما تعلم أنا أفعل كل شيء بصدق.. أعمل بصدق.. آكل بصدق.. أنام بصدق.. وأريد أن أقرأ كتابك بصدق ثم أبدي رأيي فيه بصدق..» تبسم هشام وعقبَ:
«- على أي .. سواء أكنت صادقا في ما تقول الآن أم غير صادق ..فإنني أصَدِّقك!»
في قاعة مسقوفة بألواح إسمنت متعرجة لا تردُّ قرًّا ولا حرًّا؛ في إعداديةِ قريةٍ هامشية يغادرُ تلاميذها شتاءً قبل نهاية حصص المساء لغياب الإنارة؛ في مقعد آخِرَ الصف.
تبادلا ضحكا ماكرا وقال له بلقاسم: «والله ذكرتني بقصة سأحكيها لك.. ومن الآن أتنازل لك عن ملكيتها الفكرية إن أردت كتابتها».
٭ ٭ ٭
في قاعة مسقوفة بألواح إسمنت متعرجة لا تردُّ قرًّا ولا حرًّا؛ في إعداديةِ قريةٍ هامشية يغادرُ تلاميذها شتاءً قبل نهاية حصص المساء لغياب الإنارة؛ في مقعد آخِرَ الصف.. كان يجلس بلقاسم صغيرا، وكان اسمه حينها أضخمَ من جسده النحيف. كان تلميذا باهتا خافتا، مثل تقي خفِيٍّ إن حضَرَ لم يُعرف وإن غاب لم يُفتقد. أستاذ اللغة العربية الذي ينحدر من القرية نفسها واقف أمام السبورة. لكنته بدوية. هيأته متبذلة ولباسه قليل التناسق، إلا أنه كان من جهابذة الأدب وعُشاقه وله مؤلفات. المسكين كان مغمورا، من المغرب غيرِ النافع. لم تكن له عصبية نخبوية ترفع شأنه، لكنه كان يحبب تلاميذه في الأدب وفي آخر كل حصة يحكي لهم نوادر أدباء العرب وأذكيائهم وكرمائهم.
حكى لهم يوما عن ضيوفٍ أتوا إلى حاتم الطائي في ساعة من ساعات فقره وإعساره. حار كيف يطعمهم. قال له ابنه «يا أبت اذبحني وأطعمهم كيلا يقال ضيوفُ الطائي باتوا جياعا..» لكن حاتم عرف كيف يفدي ابنه بذِبحٍ عظيم. لم يكن كبشا من الغيب، بل قام ونحرَ حصانَه الذي سارت بذِكره الركبان وحلباتُ الرهان.. حين فرغوا من أكل الشواء اللذيذ، فاتحه الضيوف في أمر مجيئهم. آه! كانوا قد أتوا لشراء الحصان الغالي وبأي ثمن يشاء صاحبُه».
أنهى الأستاذ حكايته الحزينة وأشعلَ سيجارة فاحت من أول احتراقها رائحة عود ماكرة تغري بالتدخين. أمسكها بين سبابته وإبهامه، وضع إبهامه على شفتيه والأصبعين على صدغه وطلب تعليقا على القصة. لم يرفع أي تلميذ يده وعم صمت سميك. ثم كان أن رفع بلقاسم يده، لأول مرة. أشار إليه الأستاذ وعلى وجهه بسمة استمتاع مُسبق بطرافة ما سيقال، حتما ستقع حادثة سير لغوية، ولكن لا بأس، لعله من النجباء ويمارس التقية من بداية العام.. قال بلقاسم:
– أستاذ.. سواء أكانت هذه القصة حقيقية أم خيالية فإنها من جهة تدل على تجذُّرِ أخلاق الكرم والجود في العرب، ثم إنها تجعل من يسمعها يتمنى لو كان مثل حاتم الطائي أو مثل ابنه في الكرم والجود..
جحظت عينَا الأستاذ، وقفز من مصطبته وهو ينادي أمَّه بالغيب تعجبا: «مِّيمتِي..» طوَّحَ بسيجارته خارج حجرة الدرس وكان من عادته أن يضعها على حرف النافذة حتى يعود إليها. حبس نفَسَه وطار إلى السبورة وطلب من تلميذه إعادة كلامه بينما هو ينقر على اللوح الأسود بقوة وسرعة حتى انتهى الإملاء المعكوس. فتح ذراعيه كأنما يعانق السبورة، ومكث يتأمل الجملة مهتبلا بها منتشيا، قبل أن يلتفت ويقول:
– درَّستُ عشرين سنة ولم يمتعني تلميذ قط بمثل ما أمتعتني به يا بلقَاسم.. أحسنت..
– هل تعلم يا هشام.. لقد عدتُ يومها مهموما.. وددتُ لو أن الدراسة انتهت فورا.. عبءٌ ثقيل نزل على كاهلي.. من يومها صرتُ محطَّ نظر الأستاذ ومحط انتظاره.. وما أصعب النظر وما أقسى الانتظار».
٭ قاص مغربي