استيقظت غزة على أكوامٍ من الحطام كما علقت «نيويورك تايمز» بعد قرابة العشرة أيام هي عمر هذه الجولة من المواجهة المسلحة بينها وبين العدو الصهيوني، عقب وساطةٍ مصرية قبلها الطرفان؛ وإذ يلعق الصهاينة جراحهم، وينشغلون بالانتخابات وتشكيلة الحكومة الجديدة في مرحلة ما بعد نتنياهو، فإن الفلسطينيين أيضاً يستغلون المساحة التي تتيحها هذه الهدنة، ليدفنوا شهداءهم ويداووا جرحاهم، يلتقطون أنفاسهم بصفةٍ عامة ويتدبرون أحوالهم، إذ أكاد أجزم أن فلسطينياً أياً كان وضعه، أو حظه من التعليم، لا يملك رفاهية أن يتصور أن تلك ستكون الجولة الأخيرة، أو أن ما يحيط به من مظاهر الدمار والخراب ورائحة الموت، هو آخر ما سيرى ويعايش، أو يضمن أنه شخصياً لن يقع شهيداً ما بقي في غزة وما ظل خيار المقاومة قائماً.
فالشاهد أيضاً بإثبات الأحداث، أن حل القضية عن طريق التصفية والانمحاء الذاتي للفلسطينيين ليس وارداً، هي هدنةٌ إذن، ومرحبٌ بها، نظراً لما لحق بأهل غزة من أذىً ودمار وقطع أرزاقٍ لذلك القطاع المكتظ الذي يخنقه الحصار، لكن السؤال الأهم في رأيي أثناء هذه الهدنة، بعد أن صمتت الصواريخ، وقبل أن تبدأ الجولة المقبلة، التي لن تقل عن هذه تدميراً: كيف نستغلها وكيف نوظف انتصار وصمود الشعب الفلسطيني البطولي؟
كل الأطراف تبحث عن مصالحها، وليس منها من يأبه للهم الفلسطيني، أو يكترث للحق والظرف الإنساني الفلسطيني
في مقالٍ سابق بسطت وجهة نظري في كون هذه الجولة بددت أي وهمٍ عن وجود وتماسك الشعب الفلسطيني، وأكدت بالبرهان العملي وبرائحة الدم والبارود، حسه النضالي وفدائيته، ونعيت افتقاره للحاضنة الإقليمية اللازمة لأي حركة مقاومة، لذا فالجدير بالانتباه واليقظة الآن، أن وقف إطلاق النار ذلك تم بوساطة النظام المصري بتوجيهٍ من الرئيس الأمريكي، عقب استنكارٍ أوروبي وتخوفٍ (أكثر من كونه استنكاراً) من بعض الأطراف العربية إلخ، وكل هذه الأطراف هاجسها الأول هو تصاعد العنف وزيادة أعداد الشهداء، وامتداد شرارة المواجهة بما قد يزيد من ضرام هذه النار، مهددةً بإشعال حرائق في دول الجوار، المستندة إلى توازناتٍ هشة، خاصةً تلك التي تتوفر فيها كتلةٌ فلسطينيةٌ كبيرة كالأردن مثلاً، ومن ثم فإن مشاهد الدمار والضحايا، التي لا يمكن إخفاؤها، ولا التكتم عليها، ستحرج الأنظمة الإقليمية «المتعاونة» و»الصديقة» لكلٍ من أمريكا وإسرائيل. لقد تدخلت تلك الأطراف لا انتفاضاً للحق الفلسطيني في الأرض والعودة والحرية والكرامة والاستقلال وتقرير المصير، ولا استبشاعاً أو غضباً ونخوةً على الدم المراق والأعمار والأحلام المهدرة، وإنما لحصار ذلك الصراع التحرري المسلح، الذي قد يشكل شرارةً تقدح ركام قش الغضب والمرارة والإحباط المتراكم لدى هذه الشعوب، التي بالكاد نجحت أنظمة الثورة المضادة، وعلى رأسها نظام السيسي في السيطرة عليها وترويضها بفائض العنف وثقيل الحديد ولافح النار. هذا ما تريده الإدارة الأمريكية والنظام المصري بالتحديد من الصواريخ (والمواجهة) أن تصمت.
ومن ثم سيتم التركيز على كيفية الالتفاف على وجع الرأس ذاك وتلك الحقائق المزعجة التي كشفتها المواجهة، أي بقاء الهوية الفلسطينية العصية على الانمحاء والثبات الفلسطيني وإرادة المقاومة، رغم الخسائر، وقد وجدوا ضالتهم أو على الأقل أولى الخطوات في المعونات، ومحاولة تحسين أوضاع الفلسطينيين المعيشية، فثمة قناعة لدى دوائر عديدة، أن ردم أي حركة مقاومة بالأموال سيعطي الناس شيئاً يعيشون من أجله ويتشبثون به، ومن ثم يقبلون بحالهم، أي معيشة مادية جيدة مع كرامةٍ مجروحة وحريةٍ منقوصة.
كل الأطراف تبحث عن مصالحها، وليس منها من يأبه للهم الفلسطيني، أو يكترث للحق والظرف الإنساني الفلسطيني في المقام الأول، وحتى النظام المصري (لست بمعولٍ كثيراً على نظام السيسي من الأساس) على الرغم من علاقته الطويلة المعقدة، لكن المتشابكة والمتداخلة مع النضال الوطني الفلسطيني شداً وجذباً، إيجاباً وسلباً، فإنه لا ولم ير في الصراع الدائر، إلا خطراً يحرجه وقد يهدد دعائمه واستقراره الداخلي، كما أسلفت من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى فرصةً للاستثمار بإثبات قيمته واكتساب كروت ضغط «فيشات» على طاولة قمار السياسة الإقليمية والدولية. لا شك بأن الشعب الفلسطيني ( وبالأخض في غزة) مرهقٌ تماماً، ولست من البلادة بمكان لكي أغفل أو أتغاضى عن معاناته اليومية، كما أنني لست مزايداً أيضاً، وبالتأكيد أرى الإيجابيات في المساعدات التي قد تخفف من وطأة هذا الدمار وهذه المحنة المستمرة اليومية، إلا أنني أنبه إلى ضرورة توظيفها في التقاط الأنفاس، وفي إطار استراتيجية طويلة الأمد والنفس، تخدم تحرر الشعب الفلسطيني وحصوله على حقوقه، لا على احتوائه وإذابته في المحيط الإقليمي والمنافي.
دفع الشعب الفلسطيني ولم يزل ثمناً باهظاً لنيل تحرره وكرامته، فمرحباً بالهدنة والتعويضات المستحقة، التي لا تفي عن الدمار والقتل، إلا أننا ينبغي أن لا نسمح بالالتفاف على نصره وسلبه إياه، ولا أن يغيب عن ناظرنا الهدف الأسمى والاستراتيجي، فما تلك المعارك إلا محطات ونقاط، كما ينبغي أن نتذكر أنه ليس بالمساعدات وملء البطون وحدها (على أهميتها) تحيا الشعوب.
كاتب مصري