بعد اجتماع الناتو… لماذا الصين صديق لأوروبا عدو محتمل للولايات المتحدة؟

حجم الخط
0

بعد أن طوى حلف الـ»ناتو» صفحته السوادء مع الرئيس الأمريكي السابق ترامب، في اجتماع تاريخي حضره سلفه جون بايدن، صدر البيان الختامي للحلف في 14 يونيو/حزيران الجاري، واضعا الصين في قائمة الأعداء المحتملين، بينما هدد مباشرة روسيا، باعتبارها عدوا صريحا للحلف منذ سنوات.
جاء البيان الختامي للحلف على لسان سكرتيره العام يانسن ستولتنبيرغ، بمثابة إعلان حرب قائمة بالفعل على روسيا، التي ابتلعت جزءاً من أراضي أوكرانيا، ورغم سخونة النص المتعلق بالصين، فإنه جاء مخففا عما رغبت فيه الإدارة الأمريكية، التي وضعت الصين على لسان رئيسها ووزير خارجيتها أنتوني بلينكن، منذ أسابيع في قائمة الأعداء. كشفت 138 توصية تتعلق جلها بروسيا والصين، بتطابق الرؤى بين الأعضاء الثلاثين في الحلف عن أن روسيا هي أكبر عدو لـ» «ناتو» خلال السنوات العشر المقبلة، بينما هناك بون شاسع بين الرؤية الأمريكية والأوروبية حول الصين.
وفقا لتصريحات يانسن: فإن سياسات الصين ونفوذها المتزايد عالميا يشكلان تحديا لدول الناتو، خاصة في ما يتعلق باستخدامها المعلومات المضللة، وتطوير ترسانتها النووية، واتباعها أساليب قمع الحريات للإعلام والمواطنين وتحالفها مع روسيا، وإجراء مناورات عسكرية بينهما في مناطق نفوذ ناتو، في وقت لا يريد فيه الناتو أن يدخل حربا باردة جديدة تكون الصين طرفا فيها، وحسم يانسن الموقف الأوروبي بوضوح قائلا، الصين «ليست عدوا لنا» بل رحب سكرتير عام الناتو «بفتح صفحة جديدة بين الصين ودول الحلف» في الوقت الذي أكد فيه أن «الناتو»باعتباره التحالف الأقوى عسكريا في العالم وعبر التاريخ، يجب أن تتوحد توجهاته نحو الصين، لمواجهة التهديدات المحتملة منها. جاء المشهد الذي عقدت في ظله، أول اجتماعات بعد عدة أعوام، بين القادة الأوروبيين في بروكسل، مهيبا، بينما ظلت الرؤى المزدوجة تجاه الصين مستمرة منذ سنوات، فالاتحاد الأوروبي يرى في الصين قوة بشرية واقتصادية هائلة، فقد أصبحت الشريك التجاري الأول لأوروبا، ومستقبل أعلى نسبة استثمارات أوروبية في الأسواق العالمية، حتى عام 2020، وفي الوقت ذاته، ممول جيد لمشروعات البنية الأساسية، بداية من الموانئ على سواحل اليونان، والسكك الحديدية والطرق من المجر حتى بولندا، انتهاء بتمويل محطات توليد الطاقة النووية في بريطانيا، وإقامة شبكات الجيل الخامس في ألمانيا وقلب أوروبا وممولا لصناعات حيوية كادت تختفي كما في فنلندا والسويد. فالصين أصبحت للأوربيين، السوق الكبير والمصنع الضخم والمستثمر الذي يملك سيولة لا تتوافر لدى غيرها، والشريك الذي يعتمد عليه، وإن كان لديهم «قلق تجاه بعض التصرفات الصينية» كما يصفها الرئيس الفرنسي ماكرون.

الاتحاد الأوروبي يرى في الصين قوة بشرية واقتصادية هائلة، فقد أصبحت الشريك التجاري الأول لأوروبا

لم يعكس تعدد الرؤى بين الحلفاء حول «العدو المحتمل» وضع آلية المواجهة فحسب، بل تبينت الخلفية التاريخية التي تتعامل بها أوروبا والولايات المتحدة مع الصين منذ قرن تقريبا. فبينما كانت أوروبا تتصارع في ما بينها على احتلال أراضي الصين حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كما حدث في شانغهاي وتيانجين وهونغ كونغ، اتصفت العلاقات الأمريكية بأنها «علاقة معقدة» تنتقل من التقارب إلى الصراع، خلال ذلك القرن المنصرم. فالولايات المتحدة قدمت للصين المساعدات أثناء المجاعات في ثلاثينيات القرن الماضي، وساعدتها في حرب التحرير من المستعمر الياباني وغيره، ثم تحولت إلى علاقة صراع مع توجه بكين إلى النظام الشيوعي، إلى أن جاء وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كيسنجر وأقر سياسة «الاحتواء» لتبدأ مرحلة جديدة من التفاهمات بين البلدين. شهدت الصين تحولات اقتصادية كبيرة، جعلت منها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، بل لأوروبا واليابان وافريقيا حيث تصنع الصين 25% من المنتجات الصناعية، التي تطلبها واشنطن، والسوق الأكبر في العالم، لحملة السندات الحكومية الأمريكية، بمبالغ تراوحت ما بين 3.5 و4 تريليونات دولارات أمريكية. استطاعت الصين خلال العقود الأربعة الماضية، أن تحقق طفرات اقتصادية غير مسبوقة، وبينما العالم كان يتجه لكارثة مالية، عام 2008، بسبب أزمة تراكم الديون العقارية في الولايات المتحدة، خرجت الصين منها أكثر قوة، وتولد لديها، وكثير من الدول التي تدور في فلكها وقوى سياسة أخرى، إيمان بأن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة بدأ منحنى الهبوط الحضاري، وعلى الصين أن «تستكمل مكامن قوتها الإنتاجية والعلمية والتكنولوجية» حتى تصبح الدولة رقم واحد في العالم بحلول عام2050 . واكب ذلك صعود تيار قومي جديد في الصين يقوده الرفيق شي جين بنيغ، الذي تولي زمام السلطة في البلاد منذ 10 سنوات، رافعا شعارات تستهدف إحياء الامبراطورية الصينية القديمة، التي دمرها الغرب منذ 200 عام أثناء حرب الأفيون، ورافضا لأي ضغوط أمريكية وغربية تؤدي إلى التحول الديمقراطي، كما خططت له سياسة «الاحتواء» التي انتهجها وزيرالخارجية الأسبق هنري كيسنجر. فقد قامر كيسنجر في أن التحولات الاقتصادية، وتحقيق حرية السوق وحركة رأس المال، ودخول الشراكة الأجنبية، ستعمل على دعم دور المجتمع المدني وتوسيع دائرة الحريات الشخصية، وأن تعدد وسائل المعرفة والإعلام، ستدفع نحو المزيد من الحريات العامة للمواطنين، ودعم التحول الديمقراطي، وأن تصبح الصين مجتمع ليبراليا أشبه بما حدث من تحولات في الغرب، وهو التصور الذي أثبتت التطورات الاجتماعية والسياسية الصينية خلال العقود الماضية فشله تماما، مع تنامي قوة الحزب الشيوعي الحاكم، واستخدامه التحولات الاقتصادية والتكنولوجية في دعم سيطرته وقبضته على إدارة الدولة. فعلى الرغم من دخول استثمارات أجنبية هائلة في البلاد، وظهور نخبة من الشخصيات والعائلات شديدي الثراء، وتنوع وسائل الاتصال والصلات بالخارج، فإن الدولة مازالت هي التي تدير حركة الاقتصاد، في ما يعرف بـ»الاقتصاد الاشتراكي» الذي يمنح للدولة سلطة إدارة الموارد والتحكم في السوق وفرص الاستثمار، وحركة المواطنين. كما يؤمن الرئيس شي جين بنغ بأن الديمقراطية يجب أن لا تمارس وفقا للرؤية الأمريكية، فالعالم في رأيه «متنوع في القيم، ومناهج الحكم، ومن غير المقبول أن يتم تنميطه على هيئة واحدة، كما يريد الغرب.
لم يكن المشهد السياسي في الصين غائبا عن الأمريكيين طوال هذه المدة، لذلك تحولت نظرتهم إلى الصين منذ عقد مضى، حيث التزم الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما الممثل للتيار الديمقراطي في نظرته إلى الصين بما آمن به الرئيسين الجمهوريين السابقين للولايات المتحدة وهما، ريغان وجورج بوش، بأن العلاقة مع الصين «لن تنتقل إلى التحالف أبداً». فشرع أوباما منذ عام 2012 في الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والشرق الأوسط، وتدشين «سياسة التوجه الآسيوي للسياسة الخارجية الأمريكية» خاصة بعد أن رأى الأمريكيون أن حجم النمو الاقتصادي في الصين الفريد من نوعه عبر التاريخ، مكن بكين من أن تمتلك القوة العسكرية الثالثة في العالم، وقدرات عسكرية بحرية هائلة في فترة وجيزة، وأن تنافس الولايات المتحدة في مجالات الفضاء لتصبح ثاني دولة تزاحمها في الوصول إلى المريخ، وتمتلك قدرات نووية وتكنولوجية هائلة لا تمكنها فقط من إمكانية توجيه ضربات عسكرية وسيبرانية قاتلة للمنشآت العسكرية والمدنية الأمريكية، بل أن تكون بديلا دوليا لها كما حدث في ملكيتها لتكنولوجيا الجيل الخامس، التي لديها قدرات واسعة النطاق في نقل وتبادل المعلومات، والتحكم في الأشياء عبر الإنترنت، مع تعاظم الشعور القومي لدى الصينيين وتنامي خصوم أمريكا بأن الصين، إن لم تكن القوة رقم واحد في العالم بحلول عام 2050 فعليها أن تصبح قطبا قويا في إدارة العالم قبيل هذه الفترة.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية