بيروت ـ «القدس العربي»: نالت المكتبة الخالدية في القدس جائزة تكريم للإبداع الثقافي. ذاك الصرح القائم في أعرق مدن العالم باشر عمله للعامة سنة 1900م. وكونه صرح في فلسطين وفي القدس تحديداً، فقد مرّ بصنوف من التحديات مع قوات الاحتلال الصهيوني بدءاً من عام 1948. قبل المكتبة الخالدية كانت المكتبات السائدة أجنبية أنشأتها مؤسسات لها دوافع استيطانية فكرية. وحضور المكتبة الخالدية بينها أتى ليقول في إعلان التأسيس أن المكتبات والثقافة ترقى إلى عصر الإغريق ومطلع العصر الإسلامي، اذ أن “العرب لما دخلت عليهم الحضارة والمدنية أسسوا المكتبات والمدارس”. وأضاف الإعلان مؤكداً بأن نشر العلم هو أساس التقدم والازدهار وإن القصد من المكتبة هو أن تكون ذخراً للديار المقدسية، لأنه “مهما امتطينا قطارات الآمال لنباري ما لدينا من المؤسسات الأجنبية في هذه الديار لخاب العمل”.
إذاً تأسست المكتبة الخالدية لغرض التقدم بالعرب على طريق الازدهار، برعاية العلوم وتمكينهم من مباراة المؤسسات الثقافية القوية التي انشأتها القوى الأجنبية في طول المنطقة وعرضها. وانطلاقا من هذا، كان الإعلان بأن المكتبة الخالدية ستكون “مكتبة عمومية”. وبعد إجراء ترميم واسع النطاق، وانجاز أعمال التصنيف والتبويب والحفظ، أصبحت المكتبة جاهزة للترحيب بالعلماء من جميع أنحاء العالم وذلك في بدايات عام 1900م.
عن عائلة الخالدي التي تحمل المكتبة اسمها، فتاريخها يوضح بأنها من أقدم عائلات المدينة المقدسة، واستوطنت المدينة من قرون خلت. وقد استمرت العائلة في المدينة نتيجة عنصر أساس، يتمثل في أن عمل رجالاتها تواصل في القضاء وفي المحاكم الشرعية، في فلسطين وخارجها حتى نهاية فترة الانتداب البريطاني على البلاد، وهو تاريخ الاحتلال الصهيوني لفلسطين سنة 1948.
الدكتور رجا الخالدي المشرف على المكتبة تحدث بإسمها عبر الفيديو حين أعلن الفوز بجائزة تكريم معلناً “أن الاستمرارية هي الأمل الوحيد”. ومؤكداً “سنبقى إلى أبد الآبدين نحمي هذا التراث”.
إلى “القدس العربي” تحدث الدكتور رجا الخالدي موضحاً تاريخها ومحتوياتها:
○ماذا عن محتويات المكتبة وتاريخ جمعها؟
• تشكلت نواة مخطوطات مجموعة المكتبة من أفراد العائلة، والذين كان من طبيعة عملهم ان يكون لديهم مراجع ومصادر إسلامية وغيرها بحكم عملهم للرجوع غليها عند الحاجة. وأيضا بحكم اهتمام الأفراد وثقافتهم الشخصية. وأول وقف موثق لأحد أفراد العائلة يرجع إلى سنة 1660 م، حيث أوقف أكثر من مئة مخطوط. ومع كثرة المخطوطات الموقوفة من أفراد العائلة، وأيضا توجه قسم من أفرادها للدراسة في خارج فلسطين سواء في الدول الأوروبية أو العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، بدأت شيئا فشيئا تتبلور وتكبر فكرة تأسيس مكتبة عامة في القدس بين أفراد العائلة نساء ورجالا. ومعروف ان إحدى السيدات من العائلة حبست حصصها في الوقف بإنتظار إنشاء مكتبة في القدس، وذلك قبل افتتاح المكتبة الخالدية بأكثر من عقد من الزمن. حقيقة تحمل المكتبة اسم العائلة، ولكنها في مضمونها وخدماتها هي مكتبة عامة تحمل عنوان عائلي. جرى افتتاحها سنة 1900 في مبنى يعود تشيده إلى القرن الثالث عشر الميلادي. المكتبة الخالدية وفي الأساس هي مكتبة فلسطينية عربية إسلامية، رغم المسمى العائلي لها وذلك عطفا على المستفيدين منها وعلى محتوياتها وتوجهات العائلة القومية.
تحتوي المكتبة في العصر الحالي على حوالي ألفي عنوان من المخطوطات العربية، أقدمها مخطوط يرجع إلى القرن العاشر الميلادي. يضاف إليها ما يقارب خمسين عنوانا من المخطوطات العثمانية وعشرين مخطوطة فارسية. وعدة مئات من الوثائق والفرمانات والرسائل الشخصية لأفراد من العائلة وغيرهم أيضا. وهذه الوثائق والفرامانات لا تقل أهمية عن المخطوطات، لأنها تلقي الضوء على أشخاص وحوادث مجهولة من تاريخ المدينة في نهاية القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين. وتضم المكتبة إلى ذلك عدة آلاف من الكتب العربية المطبوعة. وحوالي ألفي عنوان بلغات أوروبية مختلفة ومطبوعات باللغة العثمانية. وأخيراً تمتلك المكتبة مجموعة من الصحف العربية والعثمانية، مثل جريدة “طرابلس الشام” حيث كان مندوب تلك الصحيفة أحد أفراد العائلة، وكان عدد المشتركين فيها في القدس والخليل حوالي 67 شخصاً.
○ ماذا عن علاقة المكتبة بالجمهور ومواقيت الزيارة؟
• كانت المكتبة منذ إعلان تأسيسها تفتح طيلة أيام الأسبوع من الصباح حتى صلاة العشاء. وللأسف لا توجد تدوينات أو تسجيلات واضحة تبين لنا من المستفيدين من المكتبة، ولكن توجد معلومات متناثرة في كتب المذكرات، عن زيارات كان يقوم بها أفراد ومجموعات إلى المكتبة. ونجد أسماء عديدة في دفاتر الزوار الذين كانوا يقصدون المكتبة بحكم البحث عن مصدر أو للتعرف على ما سمعوه عن المكتبة. في فترة الانتداب البريطاني أصبحت المكتبة الخالدية أحد المعالم الرئيسية في المدينة. وينبع ذلك من موقعها القائم في “باب السلسلة” وهو أحد الأبواب الذي يقود الزائر من “باب الخليل” أو “باب يافا” إلى الحرم الشريف، إضافة إلى كونها المكتبة الوحيدة في المدينة. ونجد في كتب المذكرات أسماء العديد من المثقفين الشوام مثل اللبنانيين، إضافة إلى المصريين والأتراك والانكليز واليهود. فقد كانت المكتبة مفتوحة لكل من يريد الزيارة أو المطالعة. ونشير إلى بعض أسماء المثقفين والمستشرقين الذين سجلوا تدوينات لهم في دفاتر الزوار، ومنهم الاب لويس شيخو مدير مجلة “المشرق” في بيروت 1909. ومحمد كرد علي صاحب جريدة “المقتبس” 1911. والمستشرق الروسي اغناطوس كراتشكوفسكي. وقسطنطين زريق من الجامعة الأمريكية في بيروت. ووليم البرايت مؤسس مدرسة الآثار الأمريكية في القدس.
○ ماذا حلّ بالمكتبة بعد النكبة؟
• بعد النكبة والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين سنة 1948 تعرضت المكتبة لنكسة نتيجة الظروف التي كان يمر بها الشعب الفلسطيني فتم إغلاقها جزئيا. بمعنى انها كانت تفتح فقط بناء على تنسيق مسبق لمن يطلب الزيارة.
○ وبعد حرب الأيام الستة؟
• كانت المعضلة الأكبر التي وقعت فيها المكتبة بعد حرب الأيام الستة أو احتلال المدينة سنة 1967. وتأتت تلك المشكلة من موقع المكتبة الذي افتتحت فيه وما زالت. إذ أن المكتبة تشرف على ساحة البراق، التي أصبح اسمها بعد الاحتلال ساحة حائط المبكى الواقعة فوق حارة المغاربة التي تم مسحها بعد الحرب، فهي تقع في طريق “باب السلسلة” والذي يقود من “باب الخليل” أو “باب يافا” إلى المسجد الأقصى. وقد جرت محاولات حثيثة للاستيلاء على موقع المكتبة بدعاوى أمنية. وخاض أفراد العائلة متكاتفين في الخارج والداخل بدعم من مثقفين يهود صراعاً مريرا في المحاكم الإسرائيلية استمر أكثر من عقد، للوقوف بوجه هذه الأوامر العسكرية وتثبيت ملكية المكتبة، وأثمرت هذه الجهود جزئياً حيث تم تثبيت المكان الذي يحتوي على الكتب، ولكن تم الاستيلاء على معظم مباني المكتبة الأخرى بدواعي أمنية، ولاحقا سلم جيش الإحتلال المبنى إلى مؤسسة دينية إسرائيلية.
○ هل من رؤية مستقبلية للمكتبة؟
• أي مكتبة بشكل عام هي مؤسسة غير ربحية بمعنى انها تحتاج إلى موازنة سنوية، وهذه مشكلة بالنسبة للمكتبة الخالدية، والعائلة ليست حكومة تضع موازنة سنوية للمكتبة. ففي بعض السنوات نجد الدعم، وفي سنوات أخرى يقل هذا الدعم. ولذلك نحاول ان نرسم خططاً مستقبلية قد تنجح أو تفشل. ولكن لو وجد الاهتمام بهذا التراث، لأوجب ذلك تبني وقفية للمكتبة من أحد الأثرياء، أو إحدى الدول للصرف على المكتبة من أجل ضمان استمراريتها للاجيال القادمة. وبالتالي يمكن تطوير خدمات المكتبة وضمان تنفيذ مشاريعها في الحفاظ على هذا التراث. نحن نحاول قدر الامكان تطوير قسم لترميم المخطوطات، فهذه المجموعة عمرها مئات من السنين، وكانت تُحفظ في أماكن تعاني من الرطوبة مما أثر على أوراقها، وهي تحتاج إلى ترميم، والعملية طويلة ومكلفة ولا يمكن إنجازها في عدة سنوات، فهذا مشروع يحتاج إلى عقود من العمل المستمر.