شهدت الساحة العراقية استقرارا أمنيا تمثل في توقف هجمات الميليشيات القريبة من إيران على المصالح الأمريكية والبعثات الدبلوماسية في العراق، فبعد أن كان البلد طوال عهدة الرئيس السابق مصطفى الكاظمي ساحة للتوترات والتحرشات المتمثلة برشقات قذائف الهاون وصواريخ الكاتيوشا، التي تنهال على المناطق المحيطة بالمعسكرات التي توجد فيها القوات الأمريكية، وعلى أرتالها العسكرية. حدث هدوء نسبي، بل توقفت كل «أنشطة المقاومة الإسلامية» عندما نجحت قوى الإطار التنسيقي في تشكيل حكومة محمد شياع السوداني، التي باركتها إدارة بايدن، وشهد الطرفان نوعا من شهر العسل.
الشيخ أكرم الكعبي الأمين العام لميليشيا حركة النجباء القريبة من الحرس الثوري الإيراني، كان رأس الحربة في الأزمة الجديدة التي شهدتها العاصمة بغداد والمتمثلة في خروج أنصار الإطار التنسيقي في تظاهرة حاولت الوصول إلى السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، وقد رفع المتظاهرون أعلاما إيرانية وشعارات «الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل»، ولفتت قناة «العالم» الإيرانية إلى أن «هناك تسريبات تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية باستخباراتها كانت تنوي استهداف بعض قادة المقاومة وتحديدا الشيخ أكرم الكعبي الأمين العام لحركة النجباء، على خلفيه اتهامه بتوجيه ضربات إلى القوات الأمريكية في سوريا، وهذا التهديد جاء على لسان السفيرة الأمريكية الموجهة للحكومة العراقية في اتصال هاتفي بين الرئيس جو بايدن مع رئيس الحكومة العراقية السوداني حسب تسريبات صحيفة ميدل إيست البريطانية».
ملف الكهرباء في العراق بات من الملفات المستعصية على الحل، والحكومات المتتالية لعبت وتلعب على توترات الشارع وتعلق أخطاءها على شماعات مختلفة
تجدر الإشارة إلى أن ألينا رومانوسكي السفيرة الأمريكية في بغداد، كانت قد لعبت أدوارا تزايدت بشكل ملحوظ منذ أن ابتدأت عملها في العراق في كانون الأول/ديسمبر 2021، حتى بات الشارع العراقي يطلق عليها تهكما لقب (الخاتون) إاشارة لتشبيهها بما لعبته مس بيل غيرترود سكرتيرة المندوب السامي البريطاني في العراق للشؤون الشرقية، التي لعبت أدوارا سياسية مهمة في حقبة تأسيس المملكة العراقية. لقد شهدت ساحات الحوار والتفاعل السياسي العراقي حضورا لافتا ألينا رومانسكي، ما دفع بخصوم الإطار التنسيقي لغمزهم بالإشارة إلى أن سيدة السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء هي الحاكم الفعلي في بغداد، وليس رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الذي يحاول أن يبدو بصورة الرئيس الحازم الذي سيفعّل القانون، ويحارب الفساد، ويشرع مسيرة تنمية حقيقية. المراقب للوضع العراقي شهد في الأشهر الأخيرة استقرارا أمنيا لافتا، وقد عزا المراقبون هذا الهدوء لانخراط الميليشيات في جسد الدولة واستفادتهم مما توفره إمكانياتها من أرباح اقتصادية، عبر السيطرة على الموارد والمشاريع التي تطرح للعمل في العراق، بعد تحول واضح لجهد كبير من ميليشيات الحشد إلى العمل الإنشائي والهندسي، عبر شركات تحاول أن تحذو حذو الهيئة الهندسية للحرس الثوري الإيراني التي تسيطر على الاقتصاد الإيراني. فبعد أن تم تأسيس «شركة المهندس»، التي يشير اسمها إلى نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي المقرب من طهران (أبو مهدي المهندس) الذي اغتيل في غارة أمريكية مطلع عام 2020 قرب مطار بغداد، أصبحت هذه الشركة من أكبر الشركات الهندسية المستحوذة على مناقصات المقاولات المطروحة في العراق في مختلف القطاعات.
إذن ما الذي أشعل فتيل أزمة جديدة بين الميليشيات القريبة من طهران، والوجود الأمريكي في العراق بعد شهر العسل، الذي استمر منذ تشكيل حكومة السوداني حتى الان؟ ببساطة ووضوح إنها أزمة الكهرباء في العراق. الكل يعلم أن ملف الكهرباء في العراق بات من الملفات المستعصية على الحل، التي لا تلوح لها حلول حقيقية في الأفق. وإن تراجع التجهيز وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة مع اشتداد حرارة الصيف الحارق في العراق، بات من المسلمات، كما أن الحكومات المتتالية لعبت وتلعب على توترات الشارع كل سنة بشكل من الأشكال والنتيجة تعليق أخطائها على شماعات مختلفة. تنوعت أعذار الحكومات العراقية طوال عشرين عاما في تفسير فشلها في حل أزمة الكهرباء، فمرة تدعي أن السبب هو الضغوط الأمريكية على شركة سيمنس الألمانية، التي تعاقد معها العراق بغرض منعها من إنجاز عقدها في العراق، لتذهب العقود إلى منافستها شركة جنرال اليكترك الأمريكية. ومرة بسبب فشل شركة جنرال اليكترك بالوفاء بالتزاماتها نتيجة الأعمال الإرهابية التي تهدد حياة منتسبي الشركة وتمنعهم من العمل في العراق، علما أن أغلب محطات توليد الطاقة القديمة، أو التي يمكن أن تبنى حديثا في العراق تقع في المناطق الجنوبية الآمنة والمستقرة نسبيا، والتي لم تشهد عمليات وأنشطة إرهابية كبيرة. ومرة يعزا سبب الأزمة إلى أخطاء فنية تتنصل منها القيادة السياسية، وترميها في ملعب القرارات الفنية الخاطئة التي تبنت خيار نصب وحدات توليد جديدة تعمل بالغاز، على الرغم من أن العراق دولة فاشلة في إنتاج الغاز الطبيعي حتى الآن، إذ يترك غازه الطبيعي بمليارات الأمتار المكعبة كل عام ليحترق في الجو دون استثمار. ومرة بسبب الضغوط السياسية الإيرانية وتوجيهها رسائل للإدارات الأمريكية المتعاقبة عبر الضغط على العراق ومطالبته بسداد فواتير تجهيز الغاز وبخلافه يقوم الايرانيون بقطع الغاز في فترات ذروة الاستهلاك الكهربائي في أشهر يونيو/حزيران ويوليو/تموز وأغسطس/آب عندما تفوق درجات الحرارة الخمسين درجة مئوية في مدن العراق. كل تلك الأسباب دفعت الشارع للخروج في موجات احتجاج كل صيف بسبب تردي الخدمات، إذن ما الجديد هذ العام؟ الأسطوانة المشروخة نفسها، قطع الإيرانيون الغاز عن العراق بحجة عدم تسديد العراق ما بذمته من ديون مترتبة على تجهيز الغاز الإيراني، انهارت وحدات التوليد بشكل كبير، ما أدى إلى تراجع التجهيز بشكل كارثي. رئيس الحكومة محمد شياع السوداني وبكل هدوء يخرج في مؤتمر صحافي مع بداية الأزمة ويصرح بالقول إن، «تجهيز الكهرباء كان طبيعيا قبل الأزمة، إذ كانت وزارة الكهرباء تجهز 16 إلى 18 ساعة في اليوم». يعني انقطاع 6 إلى 8 ساعات يوميا هو الحد الطبيعي في نظر رئيس الوزراء! ويعرج السوداني على سبب الأزمة الأخيرة ليبين إنه مطالبة إيران بتسديد مستحقاتها المالية، «علما أن العراق دفع كل تلك المستحقات وليست في ذمته ديون، لكن طريقة الدفع هي المشكلة».
هي حلقة مفرغة يدور فيها المواطن العراقي منذ سنوات، فنتيجة العقوبات الاقتصادية المفروضة على طهران، يقوم العراق بدفع المستحقات الإيرانية إلى البنك الفيدرالي الأمريكي، الذي بدوره يقوم بتحويل هذه المستحقات إلى إيران، وإن وزارة الخزانة الأمريكية تقوم بالتأكد من التحويلات المالية وطبيعة الصفقات التي أنجزت لتجنب خرق قوانين العقوبات الاقتصادية، إذا ما تم التسديد المباشر بين العراق وإيران، وقد تأخر البنك الفيدرالي أو تلكأ في دفع الأموال الإيرانية مؤخرا، والنتيجة ضغط إيراني على حكومة السوداني لتطلب من (الخاتون) ألينا رومانوسكي التدخل لإطلاق الأموال الإيرانية. في غضون ذلك أطلق السوداني ادعاءات جديدة هذا العام، منها توقيع العراق أربعة عقود مع شركة «توتال إنرجيز» الفرنسية للطاقة باستثمارات تبلغ 27 مليار دولار، ينصب بشكل أساس على استثمار الغاز العراقي، وفي غضون ثلاث سنوات لن يعود العراق محتاجا لاستيراد الغاز الايراني وستنتهي مشكلة التجهيز في الصيف الحارق من كل عام. وفي المرحلة المقبلة ولتجاوز أزمة تسديد الديون الإيرانية عبر الحلقة المالية الأمريكية الوسيطة، صرح السوداني في كلمة متلفزة قائلا إن، «الحكومة اتخذت قرارا بالمقايضة العينية، بإعطاء النفط الأسود مقابل الحصول على الغاز الإيراني، لنتمكن من الحفاظ على استمرارية تجهيز الغاز والإيفاء بالتزامات العراق بتسديد مستحقات الغاز المستورد»، وأضاف أن «هذا الاتفاق سيوفر الموارد المالية للعراق، ويجنبه الاضطراب المتكرر في تجهيز الطاقة الكهربائية». فهل ستوافق الإدارة الأمريكية على عملية المقايضة البترولية التي ستخرق قوانين العقوبات المفروضة على طهران؟ وهل سنشهد في الايام المقبلة حججا حكومية عراقية اخرى مثل: ضغط أمريكي، أو إيراني على شركة «توتال إنرجيز» الفرنسية بغرض عدم إنجاز أعمالها في العراق؟ ربما فهذا أمر محتمل جدا في العراق.
كاتب عراقي