إسطنبول ـ «القدس العربي»: على الرغم من أن تركيا تعتبر من أول الدول في العالم التي اعترفت بإسرائيل عقب إعلانها كدولة عام 1948 ورغم عقود من التطبيع والتقارب الرسمي بين البلدين، إلا أن ذلك لم ينجح حتى اليوم في تغيير صورة إسرائيل كدولة احتلال والأكثر كراهية عند الغالبية الكاسحة من الشعب التركي وكافة أحزابه السياسية من كافة توجهاتها الفكرية، قبل أن يصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم قبل 17 عاماً وتتحد النظرة الشعبية مع الرسمية إلى حد كبير اتجاه إسرائيل.
وفي ظل تهافت الكثير من الأنظمة العربية نحو التطبيع مع إسرائيل ومحاولة الإيهام بوجود رأي عام عربي مؤيد لهذا التوجه، تُظهر التجربة التركية أن التقارب الرسمي الذي استمر لعقود، لم ينجح على الإطلاق في تحويل إسرائيل إلى دولة صديقة أو مقبولة على المستوى الشعبي، بل العكس.. تزداد كراهيتها لدى الأجيال الجديدة مع كل مجزرة ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني.
اعترفت تركيا بإسرائيل بعد أقل من عام على تأسيسها عام 1949، وأصبحت بذلك ثاني أكبر دولة مسلمة تعترف بإسرائيل بعد إيران التي اعترفت بإسرائيل آنذاك عام 1948. وبشكل سريع جداً، جرى تطوير العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قبل أن تتوسع إلى المجالات العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية أيضاً وتصبح إسرائيل من أكبر الدول الموردة للسلاح إلى تركيا.
وبشكل تدريجي، جرى توقيع اتفاقيات مشتركة بين البلدين تتعلق بالتعاون ضد نفوذ الاتحاد السوفييتي في الشرق الأوسط واتفاقيات للتعاون العسكري، وجرت مناورات عسكرية بين جيشي البلدين، وتنامى مستوى التعاون الأمني والاستخباري، وباتت تركيا تعتمد على إسرائيل في توريد الكثير من الأسلحة والمعدات والتقنيات العسكرية، وخاصة الطائرات بدون طيار؛ لكي تساعدها في الحرب على التنظيمات الإرهابية وخاصة تنظيم بي كا كا، وهو ما كان يشكل غطاء رئيسياً للحكومات التركية في مشهد يشبه إلى درجة كبيرة ما تعمل عليه دول عربية من خلال التبرير بضرورة التعاون مع إسرائيل لمحاربة أعدائها من خلال التعاون الأمني والاستخباري والاستفادة من التكنولوجيا العسكرية والأمنية الإسرائيلية.
ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا عام 2003 بزعامة الرئيس رجب طيب اردوغان، وجد نفسه أمام إرث ثقيل على الصعيد الرسمي. وفي السنوات الأولى لحكمه التي كان يحاول فيها ترسيخ سيطرته على مؤسسات الدولة السياسية والأمنية والعسكرية، واصل هذه العلاقات رسمياً قبل أن تبدأ الخلافات بالظهور تدريجياً ووصلت ذروتها عام 2009 عقب الهجوم الإسرائيلي على سفينة المساعدات التركية التي كانت متجهة إلى غزة «مافي مرمرة» وما تبع ذلك من سحب للسفراء وتصعيد للخطاب الرسمي الهجومي الحاد بين البلدين.
ولكن على الصعيد الشعبي، تبدو الأمور أوضح بكثير، ولا يحتاج الباحث لإجراء استطلاعات رأي أو دراسات دقيقة لمعرفة مدى كراهية الشعب التركي لإسرائيل واعتبارهم لها أنها «دولة عدو« و«دولة تشكل تهديداً عليهم»، ما يعطي مؤشراً قطعياً على فشل عقود من التطبيع والعلاقات الرسمية في تغيير صورة إسرائيل ومكانتها لدى الشعب من كافة المستويات الاجتماعية والتوجهات الفكرية والسياسية.
هل تنجح الجهود الرسمية العربية في جر شعوبها للتطبيع مع إسرائيل؟
وفي استطلاع واسع أجرته إحدى المؤسسات البحثية عام 2011 تبين أن إسرائيل ما زالت أكثر دولة في العالم ينظر إليها الشعب التركي بشكل سلبي، وقال 77٪ من المستطلعين إنهم ينظرون بشكل سلبي على الإطلاق نحو إسرائيل، فيما قال 9٪ فقط إنهم لا ينظرون بهذه السلبية لدولة الاحتلال.
وفي استطلاع آخر أجرته مؤسسة «بي بي سي» عام 2013 حول نظرة شعوب العالم بعضها لبعض، تبين أن أكثر دولة في العالم ينظر لها الشعب التركي بسلبية هي إسرائيل. وفي دراسة أخرى أجرتها جامعة «قادر هاس» التركية عام 2015 جاءت إسرائيل على رأس الدول التي يعتبرها الشعب التركي أنها تمثل تهديداً له.
وفي أحدث استطلاع غير مباشر، كتبت قبل أيام قناة «أ خبر» الإخبارية التركية المقربة من حزب العدالة والتنمية الحاكم، إلى جانب مراسلها في القدس «القدس ـ إسرائيل» بدلاً من «فلسطين»؛ ما أثار غضب شريحة واسعة من الشعب التركي، ونظمت حملة واسعة على موقع «تويتر» تهاجم القناة وتطالبها بالاعتذار عن هذا التصرف.
وتحت ضغط الرأي العام، وخلال ساعات فقط، أصدرت القناة بياناً رسمياً بعنوان «اعتذار من الجمهور»، أكدت فيه أن ما جرى فقط هو خطأ تقني بكتابة موقع ظهور المراسل، مشددة على أنها كانت وما زالت تقف الى جانب القضية الفلسطينية وأن «القدس ستبقى عاصمة فلسطين إلى الأبد».
وفي التركيبة السياسية الحالية في البلاد، تعتبر فلسطين القضية الأكثر اجماعاً بين الأحزاب التركية المختلفة، متفوقة بذلك على كافة الملفات الخلافية الداخلية التي لم تنجح في التوافق حولها بشكل كامل منذ عقود مقابل نجاحها في التوافق التام حول مواقف تتعلق بالقضية الفلسطينية.
ومؤخراً، وقعت الأحزاب التركية المنضوية تحت قبة البرلمان كافة على بيان يندد بصفقة القرن التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقبلها حول قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس، أكدت البيانات على أن «القدس عاصمة فلسطين وستبقى ذلك إلى الأبد»، وحملت البيانات توقيع أحزاب العدالة والتنمية الحاكم، وحزب الحركة القومية، وحزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة، وحزب الجيد، بالإضافة إلى حزب الشعوب الديمقراطي الكردي.
وإلى جانب استطلاعات الرأي والمواقف الرسمية ومواقف الأحزاب المعلنة، فإن جولة صغيرة في شوارع إسطنبول أو أي محافظة تركية أخرى وفتح أي نقاش مع سائق تاكسي أو مواطن تركي حول فلسطين، يكفي سماع كم هائل من الشتائم واللعنات والدعاء على إسرائيل.. في أوضح مؤشر على فشل عقود من التطبيع الرسمي في خلق حالة من التطبيع الشعبي، وهو ما يتوقع أن ينطبق على الجهود الرسمية في العالم العربي وإن حاولت بعض الأنظمة الإيحاء بأن رغبة التطبيع تأتي من الشعوب وليس الحكومات.