كلما ابتعدت عن بغداد أراها تقترب مني، حيثما ولّيت وجهي رأيتها تعبرني كموجة في السواحل. كلما ابتعدت وأوغلتُ في غربتي ونسياني، كانت تبزغ فجأة في الظلام وتذكّرني بنفسها، لتقول أنا الدنيا أنسيتني؟ فأقول بقوة وعنفوان كلا وهل هنالك من ينسى الحياة؟ أنت الحياة والمعنى، أنت مدن في مدينة، وجمالك منثور ما بين الرصافة والكرخ، لقد مرّ بك الغزاة والتتار والمارينز والفرس والترك وغيرهم من الأقوام، بعضهم تزوّد منك علماً ومعرفة وأدباً، وبعضهم خلف فيك الندوب الوحشية، وتركك جريحة وطعينة في أكثر من جانب، وفي أكثر من وقت، بينما أنت كنت تنهضين دائماً، تغسلين جراحك بمياه دجلة، وتتجمّلين بغِرْيَن الفرات، قامتك عالية أعلى من جبل «حصى روست» وسلسلة جبال «حمرين» قلبك ياقوتي وروحك تشبه روح برتقالة، وسُمُوُّكِ في الغالب هو سُمّوُّ نخلة، تنامين بين الأعشاب وزهور الحدائق، رائحة الجوري والشبوي والرازقيّ تحرسك في الأصياف، وفي الأشتاء يدثرك القمر المشمشيّ بلون القهرمان.
كلما ابتعدت عنك تقتربين مني، في الحلم تأتين دائماً على شكل فتاة جميلة قادمة من عصور غابرة، عصور سومر وأكاد وبابل، أو تأتين متبرّجة منحدرة من عصر عبّاسي، مصحوبة بالآس والعطور والدفوف، والأطفال من حولك يلعبون بالأقمار والنجوم، التي هي نجومك وأقمارك ظانين اللقى حلوى منثورة فوق جدائل العروس.
لك الأسماء كلها فأنت: بغداد و«كلواذا» و«مدينة السلام» و«مدينة ألف ليلة وليلة» و«عاصمة الرشيد» و«أرض السواد» و«بلاد ما بين النهرين» و«المدينة المدوّرة» وغيرها من التسميات التي ابتكرها المؤرّخون والباحثون والمستكشفون والمستشرقون والشعراء والمدوّنون التاريخيون، اسمك يسحر من يسمع نغمته الشاعرية، كنت على الدوام رديفة الرؤيا، ومن هنا عشقك المتصوّفون، أبو منصور الحلاج، الجُنيد، فريد الدين العطار، السهروردي، محمد عبد الجبّار النفري، عبد القادر الجيلاني، الشيخ معروف الكرخي، الخضر، وآخرون من كبار المتصوّفة والعاشقين لمقامك الجليل، ولقد حاباك الشعراء وخطبوا ودّك، وكانوا كثيرين كعدد أشجار النخيل في منطقة «الجعيفر» كعدد شجرات اليوكالبتوس في «الوزيرية» وشجيرات الآس في «شارع أبي نواس» وعدد الكتب في «شارع المتنبّي» حتى الطغاة أحبّوك وخلعوا عليك بُرَدهم وخطبهم ومعاطفهم العسكرية.
صحيح أن التتار طعنوك في أكثر من جنب وخاصرة، وأسالوا الدم والحبر ليختلطا معاً، ويصنعا النهير الصغير الذي مرّ كساقية بنفسجية في أزقتك القديمة، لكنهم صُدموا لتمنّعك على الانهيار. ففرّوا ومنهم من بقي فيك، حبّاً لهوائك وجمال فصولك، فبقي التتري، في منطقته التي لم تزل ماثلة إلى الآن « الطاطران» تحريفاً بسيطاً عن التاتاريون، وثمة الشيشان الذين اندمجوا بالتراب العراقي وأصبحوا مزيجاً من ذراته المعجونة في الهواء وأصبحوا جزءا منكِ، وهم عائلة «جيجان» كثيرون من الأتراك والفرس أمسوا عوائل غنية ومعروفة في أرضك الطيّبة، وغدوا عراقيين أقحاحاً لا يُجاورن في النسب والانتماء إلى روحك العميقة، هذه الروح التي تستوعب وتستجلب وتضم وتقولب القادمين إليها في قالب بغدادي، يتّسم بالطبيعة العراقية وحسن كرمها وضيافتها المعهودة، فكانوا خير معين وخير مدافع وخير وفيّ لها في المُلمّات والنوائب والصعاب، التي واجهتها على مرور قرون وعقود وتواريخ لا تحصى، في أرض تاريخية، هي أرض عشتار وجلجامش وأنكيدو وسرجون ونبوخذ نصر وآشور بانيبال، هي أرض أكد وسومر وبابل وآشور، أرض نينوى وأور، أرض سامراء والنجف وكربلاء، ترابها مقدّس ووريت فيه أجداث العظماء.
هي المدينة التي أحبها الشعراء أبو الطيب المتنبّي، أبو تمّام الطائي، البحتري، أبو زريق البغدادي، وأحبّها جرير والفرزدق وابن الرومي ودعبل الخزاعي وأبو العتاهية والكميت والسمؤال وغيرهم لا يحصون، وصولاً إلى الرصافي والزهاوي والجواهري، ثم السياب والبياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري ولميعة عبارس عمارة، وغيرهم لا يعدّون ولا يحصون من الشعراء العرب والعراقيين، عدا العلماء المؤرّخين والمُنقّبين والباحثين الذين حلموا بها وأعجبوا بتاريخها وأقاموا فيها كالمؤرّخ والمُنقّب الباحث البريطاني مالوان وزوجته الكاتبة الشهيرة أغاثا كريستي، والمستشرق ماسنيون والأب أنستانس ماري الكرملي الذي وهب العراق الكثير من نشاطه البحثي والعلمي والتدويني الماثل في مجلدات ثمينة، تبحث تاريخ العراق ببغداده الأثيرة.
أحبّ الشعراء بغداد كثيراً، تغنّوا بها وغازلوها، وأحبّوا نساءها، وتشبب الشعراء بالنساء الأميرات والنساء الغواني والنساء الجميلات، من أهل الذوات والقصور، أو النساء المستطرقات والذاهبات إلى الأسواق والحمّامات والخيّاطات، كأبي نواس والعباس بن الأحنف وعلي بن الجهم الذي قال:
«عيون المها بين الرصافة والجسرِ
جَلبن الهوى من حيثُ أدري ولا أدري
أعدنَ لي الشوق القديمَ ولم أكن سلوتُ
لكن زِدنَ جمراً على جمرِ».
وكذلك هو الشاعر أبي زريق البغدادي الذي قال غزلاً مضاعفاً، دامجاً حبيبته ببغداد، ومادحاً من خلال بغداد الحبيبة:
«أستودع الله في بغدادَ لي قمراً
بالكرخِ من فلَك الأزرارِ مطلعه
ودّعته وبودّي لو يودّعني
صفوَ الحياةِ وأنّى لا أودّعه»
أما العظيم أبو العلاء المعرّي فقد أحب بغداد وأهلها وماءها والهواء الشفاف فيها قائلاً مديحاً مذهلاً حين أقام في مرابعها:
« أودّعكم يا أهلَ بغداد والحشا
على زفَراتٍ ما يَنَينَ من اللذَعِ
وداعَ خنا لم يستقلْ وإنما
تحامل من بعد العثارِ على ضَلَعِ»
وقال أمير الشعراء أحمد شوقي عنها مديحاً لا يُجارى، فهي له بلد الشرائع ومطالع الخلق:
«دع عنك روما وأثينا وما حوَتا
كلُّ اليواقيتِ في بغدادَ والتؤمِ»
ويقول الجواهري مادحاً نهرها الخالد: «حييتُ سفحكِ عن بعدٍ فحييني
يا دجلة الخير يأ أمّ البساتينِ»
أما أجمل الأبيات فقد قالها فيها نزار قباني شاعر الغزل الكبير وهي:
«عيناك يا بغدادُ منذ طفولتي
شمسان ناعمتانِ في أهدابي
لا تنكري وجهي
فأنتِ حبيبتي ووردُ مائدتي وكأسُ شرابي
بغدادُ جئتكِ كالسفينة متعباً
أخفي جراحاتي وراء ثيابي
بغدادُ عشت الحسنَ في ألوانه
لكن حسنكِ لم يكن بحسابي
ماذا سأكتب عنك يا فيروزتي
هواكِ لا يكفيه ألفُ كتابِ»
هذا غيض من فيض، ولو أردنا أن نذهب في اتجاه كل ما قيل فيها من شعر، لاحتجنا إلى أكثر من مجلد وكتاب، فبغداد التي عرفتها ستبقى هكذا على مرّ الأوقات، جوهرة تضيء حياتنا ومحيطنا، فمنها تنبثق الذكريات مثل لآلئ تنير التواريخ، عبر ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ومثل مصابيح تشع في الروح، لتحمي الأعماق من النوائب والنوازل والطعون، تلك التي ترمي بها الحياة وهي تسير في مشوارها العادي.
شاعر عراقي