رددت خلال أيام المدرسة أنشودة ‘بلاد العرب أوطاني، وكل العرب اخواني’، وحفظت كلماتها عن ظهر قلب، وجمعت مفرداتها مراراً وتكراراً حتى باتت هي المثل الأعلى في كل مقام ومقال. لم أكن أعرف سوى أن العرب أمة واحدة، ولا أدرك إلا حقيقة قوامها أن بلادي ممتدة من المحيط إلى الخليج، وأنا عربي ابن عربي. كنت أتبارز مع أصدقائي على رسم خريطة الوطن العربي بكافة تعرجاته وتفاصيله، ونتنافس على حصر موارده الطبيعية؛ هنا نفط وذهب، وهناك ثروة حيوانية …هنا معادن، وهناك زرع وثمر! لم نكن نعي أن هذه القصة هي البداية، وليست النهاية. كانت طفولتنا أحلام على شواطىء ووهم من نسج خيال وسراب في الأفق. منذ نعومة أظفاري، عزمت على زيارة ما أستطيع من بلاد العرب … بلادي! فالنفس كانت تهذي أنه أينما حطت قدمي ستطأ رملا عربيا! وأينما وضعت جنبي، سيستريح حتماً على حصى أرض عربية. كبرت والهذيان ما انفك يزيد صداه ويضرب أثراً في الأعماق. عانقت حبالاً من أمل، وتشبثت بمــــقابض ألم، ووقعت ضحية أفخاخ أسى. الشمس تشرق، فأقول شمس العرب أشرقت. البدر يظهر فأصيح نحوه ابتهاجاً منادياً إياه لعل قصة حب تزدهر في ليلة قمراء. لكن كل ذلك كان أحاديث طفولة هائمة! ارتحلت وسافرت وضربت أصقاع الوطن العربي سعياً وراء حب استعمر زوايا الذاكرة ونشر جنوده على حدود الوجود والكيان. زرت أغلب الدول العربية واحتككت مع شعوب هم إخواني وأخذت صوراً فوتوغرافية توثيقاً وبرهاناً. أنثر هذه الصور أمامي فأجدني أمام واقع مختلف في كل صورة، من ضفاف الخليج إلى سواحل المحيط. أنا نفسي لا أتغير، لكن الظروف والأشخاص تتغير! تبعثرت الصور، وانهمكت تمحيصاً فيها، وفي كل مرة أكتشف أني بصدد البسمة ذاتها. ليست بسمة اعتلت محياي هي المقصودة، لا ! لكن بسمة على وجوه مرافقين لي في الصور كافة. البسمة العربية الأصيلة كانت عاملاً مشتركاً بين شتى الصور؛ فهي تحكي روايات وروايات عن فحوى أخوة عربية عهدتها في ثنايا كتب ووثائق! أذكر أني ذات مرة كنت في العاصمة السودانية ‘الخرطوم’، وكانت البلاد تعاني حينها من ويلات الانقسام والتفكك محاولة التعافي. استقليت سيارة أخ سوداني، وشرع في تعريفي على معالم المدينة، وأخذ يسهب في الشرح عن تاريخ المباني المتفرقة، وقصص الأحياء والعباد. فداهمتنا خلال مسيرنا سيارة غريبة أخرى، فما كان من رفيقي السوداني إلا أن حيَاه تحية سودانية من خلف مقود السيارة، وضحكة هزت أرجاء الطريق. فسألته من باب الفضول الفطري بداخلي عمن يكون ذلك الشخص. فأجابني بكل بساطة: ‘لا أعرف، لكن يبدو أنه من جنوب السودان، الدولة الناشئة حديثاً’. إجابته لم تشف غليل فضولي، بل استثارته أكثر. ‘ كيف تحييه، وأنت لا تعرفه؟!’ أسأله مرة أخرى. فيجيبني أن في السودان عادة قديمة ان تكون تحية الكل للكل بغض النظرعن منشئه وخلفيته ولتتكلم السياسة ما شاءت فحالنا الوحدة وإن أبى أهل السياسة ورفضتها دهاليز الحدود! قالها، ونفض بكلامه غبار سياسة أحاطت بي من كل حدب وصوب. أكتب والقلم يقطر فخراً وهو يرسم كلمات على بضع ورق. أقرأها وأنا أشعر بانتفاضة داخلية تنشأ ورجفة تهز كياني وتنثر ذكرياتي ألماً وبهجة على حدود الوطن العربي الكبير. فرَقتنا السياسة وجمعنا التاريخ واللغة والهم والأمل. قد يقول قائل أن الوطن العربي محض أساطير والقصة قديمة ما عادت تجدي نفعاً ولا تنتج ثمراً ناضجاً. فليقولوا ما شاؤوا وما أرادوا. أنا في داخلي أؤمن بحقيقة واحدة فقط، أني في غربة الأوطان لن أرتاح إلا إذا صادفت عربياً هنا أو هناك. من غير حول لي ولا قوة سأشعر بأمان وسلام قلَ نظيره. فأنا عربي، هويتي عربية، وقيمي عربية، وتاريخي عربي، فلم التكلف والتظاهر بما لست عليه؟! أعرف يقيناً أن الوطن العربي هو موطني، وأي بقعة فيه تثري إحساساً لست بمسيطر عليه، وأي ألم ببلد فيه يؤلمني، وأي بهجة بمدينة فيه تفرحني. في داخلي عربي أرَقه الحلم وأتعبه البعد وأحياه الأمل. نعم، أنا عربي ابن عربي! حسام خطاب الأردن [email protected]
أبدعت يا حسام.. اتمنى لك مزيدا من التألق.. استمر