هناك التباس لغوي شائع يواجهه المترجمون من الإنكليزية إلى العربية يتعلق بكلمة Home الإنكليزية، هل يصح ترجمتها بوطن رغم أنها تدل على البيت أيضاً. هذا الالتباس نجده في الترجمات المختلفة لعنوان فيلم الفنان التشكيلي الفلسطيني الراحل كمال بُلاطة، وهو فيلم يوثّق تجربة زيارة الفنان لمدينته القدس التي حرمه الاحتلال من الإقامة فيها. فجاء عنوان الفيلم: «Stranger at Home» إخراج الهولندي رودولف فان دنبورغ (1985) الذي يروي حكاية علاقة الفلسطيني الغائب بوطنه وبيته وطفولته وألمه وعشقه، ليطرح السؤال، كي222ف نترجم كلمةHome إلى العربية؟
كلمة وطن المرتبطة بالدولة الأم جديدة، لكن هذه الكلمة كانت حاضرة بشكل دائم في ثقافتنا، نعثر عليها في شعر المتنبي وغيره من الشعراء. فحين كتب شاعر العرب الأكبر نونيته التي مطلعها: بمَ التعللُ لا أهلٌ ولا وطنُ/ ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكنُ»، فإن كلمة وطن هنا تعني البيت والمكان الأليف.
غُربة كمال بُلاطة مزدوجة: غربة عن بيته وطفولته، وغربة عن وطنه، لذا اقترح أن يكون عنوان الفيلم «غريب في وطنه».
عزاء فنان القدس في غربته هي عودته على نعش ليُدفن في القدس غريباً مع غرباء قومه الذين غرّبهم الاحتلال في وطنهم.
تقلبات زمن الموت العربي الراهن أدخلت تعديلات جوهرية على كلمتي غريب ووطن، ولعل تجربة السوريات والسوريين في بلادهم وبلاد غربتهم تقدّم صورة مأساوية عن مصير الإنسان العربي في حياته وموته.
موتى بلا قبور و/أو موتى بلا أسماء، هذا هو حال عشرات آلاف المخطوفين/المعتقلين السوريين في بلادهم. ماتوا ويموتون بصمت وسط عتمة التعذيب والتجويع في سجون المستبد. غير أن الموت لاحق السوريين إلى منفاهم اللبناني، فصار السوري غريباً هنا وبلا اسم، يعيش ملاحقاً، وحين يموت لا يجد قبراً.
أليس مستغرباً الحديث عن لبنان كمنفى سوري؟
تزول هذه الغرابة بشكل نسبي حين نكتشف أن لبنان صار أيضاً منفى للبنانيين المقيمين في وطنهم، واللبنانيون لا يختلفون في هذا عن عرب المشرق من مصر إلى العراقين إلى سورية إلى آخر ما لا آخر له.
ومع أن اللبنانيين مشغولون اليوم بالكارثة الاقتصادية-الاجتماعية التي صنعتها رأسمالية مافيا الطوائف المتسلطة، لكنهم يواجهون أيضاً مصيبة أخلاقية تدمّر المعنى، وتهدد بتوحيشهم، وسط هذا المدّ العنصري الذي بدأ بمقولة «التفوق الجيني» ولا نعلم إلى أية هاوية جديدة سيقودنا.
الحكاية أيتها السيدات والسادة بسيطة وتحصل في كل يوم ثم تتلاشى وسط إعلام تافه ليس معنياً سوى بضجيج السياسيين وسجل الفضائح اليومية.
ومع ذلك، أو ربما بسبب ذلك، أريدكم أن تأتوا معي في زيارة سريعة إلى قرية عاصون في قضاء الضنيّة شمالي لبنان لتشاهدوا بأعينكم كيف تم نبش قبر طفل سوري في الرابعة من العمر، وطرده من مقبرة القرية!
الحكاية لا تصدّق لكنها حصلت، والوقائع التي رافقتها تتكلم، ولا حاجة بكم إلى إضافة الصفات، فالصفة مهما تمادت في إلصاق النعوت، لن تصل إلى مستوى الجريمة.
نعم هناك جريمة ارتكبت، والجريمة ليست صفة، إنها اسم مطابق للحدث. طفل سوري، ذنبه الوحيد أنه لاجئ إلى لبنان، يجد نفسه، بعد أن دهسته سيارة وقتلته، عارياً بلا قبر. قيل، والله أعلم، إن أهله دفنوه تسلّلاً، وإن «جريمة» التسلّل اكتشفت، فقام أحد سكان القرية بنبش القبر وإجبار الأهل على أخذ الجثة.
تخيلوا معي المشهد، قتيل مُتهم بأنه دُفن في مقبرة، طفل ملفوف بكفنه الترابي يجري إخراجه من القبر والطلب من ذويه أن «يدبّروا حالهم».
لم تنشر أية وسيلة إعلامية اسم هذا الطفل، سوري لا اسم له، ككل السوريين الذين ظلمهم الدهر فصاروا لاجئين في لبنان.
في بلدهم المنكوب بالاستبداد الوحشي اختبروا معنى العيش في حقول القتل والدم، أما في لبنان فكان عليهم أن يتحمّلوا العسف والظلم والعنصرية التي اتخذت أشكالاً لا حصر لها، تبدأ بمنع التجوّل مساء في القرى ولا تنتهي بالإهانات والضرب والإذلال.
ما كان لهذه الممارسات أن تتمادى لو كان اللاجئون السوريون يملكون وطناً يدافع عنهم، لكنهم فجأة فقدوا الوطن بمعنييه القديم والحديث، فقدوا البيت والمأوى، كما فقدوا الفضاء العام الذي يجعلهم يحملون الاسم السوري.
الفظيع هو أن حلفاء النظام السوري في لبنان، وعلى رأسهم التيار العوني وقوى الممانعة، حوّلوا سلطتهم وتسلطهم إلى عصا غليظة في يد نظام الاستبداد، فصار الهرب من الموت إلى الموت سمة حياة اللاجئين السوريين الفقراء في لبنان.
يستطيع القائمقام التنصل من الجريمة واعتبارها حدثاً فردياً، لكن الوقائع تكذّب ذلك، قائممقام القضاء السيدة رولا البايع طلبت منع الدفن «بسبب ضيق مساحة المقبرة وحصرها بأهل القرية من اللبنانيين فقط»، وبعد الضغط الذي مارسه الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، تراجعت عن قرارها، ولكن بعدما دفن الطفل في قرية أخرى.
السؤال الذي حيّرني هو لماذا لم يذكر أحد اسم هذا الطفل البائس الذي قتل مرتين، المرة الأولى عندما دهسته سيارة، والمرة الثانية عندما نبشوا قبره.
سرقوا منه بيته ووطنه واليوم يسرقون اسمه.
طفل بلا قبر ولا اسم ولا وطن.
هذا الطفل صار مرآة لبنان وسوريا والمشرق العربي.
أنظروا أيها الناس في مرآتكم هذه وتأملوا واقعكم، فهذا الانحطاط الشامل الذي يحاصرنا يدمّر آخر المعاني الإنسانية في بلادنا المنكوبة.
شكرا للكاتب الكريم على انسانيته وانتمائه لسوريةالكبرى شمالها ماردين حيث مسقط رأس والد السيدة فيروز
لقد ذكرتني بوطني سوري حبيب على كل السوريين أنه الوزير الأول فارس الخوري وطبعا هو من عائلتك فالعائلات السورية اللبنانية واحدة
ولي أقرباء منذ قرن في طرابلس وعندما كنت بالجامعة في الأردن كان زملائي يظنون اني لبناني لوحدة اللهجة ويقول أكرم الحوراني كانت الجرائد البيروتية التي تأتي إلى حماة اكثر من الدمشقية
لدى القاء جدي شاعر العاصي بدرالدين الحامد قصيدة رثاء في تأبين عبدالحميد كرامي قطعت الإذاعة اللبنانية البث عندماتكلم بمايلي
لبنانكم والشام قطر واحد
ماباله في الشمل غير موحد
فإذا الجمارك بيننا منصوبة
وإذا المسافر كالطريد المبعد
عبدالحميد ألست أول صارخ
اسفا على مجموعه المتبدد!
يتبع
لي قصيدة منذربع قرن كتبتها أثناء الجامعة في الأردن عن الحنين الى الوطن
اتيت نحوك حتى صدني المطر
كموجة البحر تعلو ثم تندثر
وقد وصلت فلا الأمطار تمنعني
رغم الليالي تضيء الشمس والقمر
الليل والورد والوديان ملهمتي
والبحر والزهر والاطيار والشجر
لكم تعذبت في منفاي ياوطني
حتى الثواني بعمق الليل تختبر
إن كان من قدر اهواك مبتعدا
فكم اتوق لقبر فيك يأتزر
ايامنا الحلوة الزهراء مشمسة
هلا تعود ويحلو الليل والسمر
إكرام الميت دفنه، في اوطننا المنكَوبة لا الإكرام لإحياء فما بالك بالإخوان
هل تساءل اللبنانيون اصحاب ” التفوق الجيني” عن هويتهم الحقيقية؟ تفوقهم الجيني جعل قيمهم الانسانية متدنية جدا، متدنية الى حد باتت مقابرهم ضيقة لاتساع قبر طفل لا تساوي مساحته متر مربع. لكن لو كان هذا الطفل مسيحيا، أو من عائلة ثرية لبات مرحبا به في ارض أجداده .. الى أي درك اسفل وصل العرب يا اسفاه.
يمكن أن يدفع متيم هوى ببنت هوى ستة عشر مليون دولار ولا يدفع رواتب عاملية، ويمكن في دولة ترفع اسما كبيرا كمن يضع على واجهته صور ساعات سويسرية وهو مطهر اولاد، كل هذا ممكن في بلاد العرب اوطاني من الشام لبغدان ومن نجد الى يمن الى مصر فتطوان
سوري عتيق
التواصل معي
[email protected]
المحزن في القصة كلّها افتقاد انساننا العربي للمشاعر الإنسانية،
أتعرف يا عزيزي الياس في بلدتنا الرامة – في الجليل شمال فلسطين سمح رئيس مجلسنا المحلي واسمه الياس أيضا ليهود قدموا من روسيا بالدفن في مقبرة الطائفة في القرية بعد أن منعهم اليهود المتدينون من الدفن داخل مقبرة مدينة كرمئيل القريبة من الرامة بحجة غير التأكد من يهوديّتهم. وفعل ذلك من منطلق إنساني . فهل يبقى لنا ما نقول في حالتنا العربية البائسة؟؟
نبيه القاسم
شكراً أخي نبيه القاسم, هذا يدل من جهة ثانية على أن العنصرية والتطرف بلا دين ولاهوية, بل صفة قبيحة تجمع كل من يعتنقها.
شكراً أخي الياس خوري.
لاأريد إضافة تعليق أو ربما لاأستطيع, اي كلام والعين تدمع.
شكرا للأخ إلياس خوري على مقاله الذي كتبه بقلب مفعم بالإنسانية وسمو الأخلاق، ولا ريب..
هؤلاء المتوحشون من قرية عاصون أسوأ بكثير ممن تنطبق عليهم الآية الكريمة في سورة الحجرات: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ».. !!
هؤلاء المتوحشون من قرية عاصون لا يختلفون أي اختلاف عن أكلة اللحم البشري /أو القنبليين/ الذين وصفهم بالتفصيل النفساني الدقيق أستاذي غياث المرزوق في مقاله «التماهي: إيجابياته وسلبياته» المنشور بقسميه في أكثر من مكان.. !!