تحسست ياقة فستاني الغارقة في البلل، كانت دموع إيفيلن التي استلقت على صدري وناحت نوح خزنه قهر السنوات والأيام في قلبها ليخرج منساباً فياضاً على كتفي وليمتصه قماش فستاني ويفيض. ما الأمر يا إيفيلن، سألتها؟ لا بد أن أغادر مدام، لا بد لي من العودة لأبنائي الذين أتركهم الآن مع أب مهمل لا أدري إن كان يعتني بهم أم لا. هدأت من روعها وطلبت منها أن تشرح لي المزيد علّني أستطيع تقديم أي مساعدة. حكت إيفيلن وكأن روحها قربة منتفخة بالوجع، ما إن نغزتها أنا بسؤالي حتى انفجرت بقهرها وغضبها، غضبها الذي بدا موجهاً لزوجها في الظاهر، فيما هو يصوب سهامه تجاه نفسها والحياة التي قسمتها الأقدار لها.
حكت إيفيلين واستمعْت، وبكت وبكيت، هي تصف أبناءها وأنا أرى أطفال غزة، وكأن الأسى بالأسى يذكر، وكأن عذاب هؤلاء الأطفال بعذاب نظرائهم في قارة أخرى يتلاقى، لربما ليس بالكمية ولا بالنوعية، ولكن بالعمق والمعنى، هم أطفال كتبت الدنيا عليهم العذاب، فلم يا ترى؟ أي حكمة نستخلصها من ذلك؟
أخبرتني إيفيلن عن زواجها التعس وعن زوجها الذي هربت منه لتؤمن لقمة وهدمة وتعليماً لأبنائها، ليلاحقها هو بإهماله وفحش تصرفاته، وإهماله لكل استثماراتها التي تتمثل في أبنائها الذين من أجلهم تركت الوطن والأمن والأمان لتتغرب في بيوت أناس لا تعرفهم، تخدم في مطابخ وغرف باردة، وتنام في سرير موحش، لا يدفئه ابن أو حبيب. تعيش إيفيلن ومثيلاتها برودة ووحشة لا يمكن أبداً تسريتهما، ذلك أن حسن المعاملة والرفق والاحتواء، مهما بلغت مبلغها جميعاً، لا يمكن أبداً أن تمحو وحشة الغربة، أو تملأ فراغ فراق الأحبة والأبناء.
تركتُ إيفيلن تنعى حياتها غير العادلة، وتبكي بحرقة ضربة الحظ الجينية التي وضعتها في موقعها وأنا في موقعي، رغم أنها لا تقلّ طيبة أو ذكاء أو إصراراً، ولربما في الأخير هي تزيد وتتفوق. بعد أن هدأ روعها، ذكرتها بأن تراجع قرارها بتمعن وأن تأخذ وقتها، وأنني سأساندها أياً كان قرارها، ذلك أنه ما إن تغادر هي الكويت، قد لا تتمكن من العودة مجدداً مع الخلافات الكويتية الفلبينية حول حقوق العمالة المالية والقانونية وشروط تأمين سلامة الجالية في الكويت. بدت إيفيلن مستاءة من وجودها في هذا المأزق، ففي محاولة حكومتها تأمين أمنها وحقوقها، أياً كان تقييمنا لسلوك الحكومة الفلبينية ولشروط رئيسها، هي كذلك تنتقص من فرصها في العمل وتضيق عليها فرجة من الحياة هي؛ أي الحكومة بحد ذاتها، غير قادرة على توفيرها.
تفكرت كثيراً في هذا الوضع الحياتي المتناقض، في كيف أن تأمين حقوق أكثر وشروط سلامة أقوى للعاملة الفلبينية داخل الكويت، سيكلف هذه العمالة غالياً، وسيمنع عنهم فرص عمل هم في أشد الحاجة إليها. هكذا هي الدنيا دائماً، تعطي الفقير الضعيف خيارات بلا شك، لكنها خيارات بين سيئ وأسوأ، بين حرق بالنار أو لسعة سوط، بين لقمة عيش وغربة أو جوع وقُرب، بين قلب دافئ أو معدة مليئة.
انطبع مجرى دموع واضح ببياض رمادي على خد إيفيلن، بدا لوهلة أن كل الدم قد جرى هرباً من وجهها، وقد اتسعت عيناها ورفرفت فتحتا أنفها وارتعشت شفاتها وهي تحاول أن تنطق كلماتها. طلبت منها أن تهدأ وأن تأخذ وقتها، إلا أنها أخبرتني مصرة: لا بد أن أعود مدام، ليس لدي خيار، من أعمل من أجلهم سيتشردون لو بقيت هنا. على الأقل حين أكون بصحبتهم، سأتمكن من حمايتهم ولو بالشيء القليل. قلت لها إنني أتفهم، وإنني سأساعد ما وسعتني المساعدة، وإنني لن أنساها أبداً، وإن مكانها محفوظ في بيتها الثاني ها هنا في الكويت أبد الدهر.
غادرتني إيفيلن بعد أن حفر مجرى دمعها صورته في روحي. جلستُ وحيدة أبكي أطفالها، وبالتبعية كل أطفال العالم، معرجة بالطبع بأغلبية دموعي على أطفال غزة. تفكرت للحظة، هذه أول مرة ومنذ ثلاثة أشهر يفيض حزني على حكاية غير حكاية غزة، على أطفال غير أطفالها وعلى وجع غير وجعها. شعرت وكأن حزني ولو للحظة، قد خان غزة التي لا تحتمل في التو واللحظة شريكاً في الأحزان. ثم تذكرت السودان وتقصيرنا الفاحش تجاه الجرائم التي ترتكب في الخفاء على أرضه، ثم عدت إلى إيفيلين، إلى مجرى دمعها الأبيض الرمادي على وجنتها الباهتة، فانفطر قلبي وتركت كل أحزاني تتجمع في حزنها ومن أجلها.
لا أدري إن كنت أبكي حزنك يا إيفيلن أم حزن العالم كله في مأتم غزة الكبير، أم حزن تقصير فظيع تجاه السودان، أم حزناً خاصاً شخصياً دفيناً في قلبي خبأته الأيام والسنون وهي تمر فوقه بلا رحمة، لينكأه أول طارئ موجع يحضر حياتي. أحزن من أجلك يا إيفيلن، من أجل ضربة الحظ الجينية التي خانتك. في وجعك المصغر تتراءى الأوجاع الكبرى، ففي إهمال الحياة وظلمها لك ووقوفها ضد حقك صورة منمنمة لكل مظالم الحياة، حتى العظمى فاحشة الظلم منها، كمظلومية غزة. تداخلت المواجع وتشابكت وبقيت وجوه أطفالك المعرضين للتشرد ووجوه أطفال غزة المعرضين للموت هي الظاهرة على تلة الأوجاع الضخمة تلك، وجوه صغيرة بريئة حائرة متسائلة: بأي ذنب ظُلمت؟ لأي هدف؟ وما هو المغزى والمعنى من كل هذا في هذه الـحياة؟