تلتحق ماتيلد الفرنسية المنحدرة من منطقة الألزاس بزوجها أمين ـ الجندي السابق في صفوف الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية – في المغرب، وبعد فترة قصيرة تقضيها معه في منزل العائلة في مدينة مكناس، تبدأ حياتها الحقيقية في ضيعة في ضواحي المدينة، يحلم أمين بتحويلها إلى جنة خصبة، مقتنعا بضرورة الاستفادة من التقنيات الزراعية المتطورة، فهل سارت الأمور كما خطط لها الزوجان، خاصة بعد ولادة طفليهما عائشة وسليم، أم أن الواقع بعيد تماما عن التمني؟
حملة إعلامية كاسحة كان لها فيروس كورونا بالمرصاد:
يتعلق الأمر هنا برواية «بلد الآخرين» للكاتبة الفرنسية (من أصول مغربية) ليلى سليماني، الفائزة بجائزة الغونكور، أرقى جائزة أدبية فرنكوفونية، عن روايتها «أغنية هادئة» عام 2016. صدرت مطلع مارس/آذار الماضي، ورافقت الإعلان عنها حملة دعائية ضخمة، بدأت مبكرا للغاية، ضمن فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب في الدار البيضاء شهر فبراير/شباط الماضي، فهم منها المتتبعون أن هذه الرواية جزء أول ضمن ثلاثية «تاريخية» تتناول مسار عائلة مختلطة في المغرب، لعدة عقود، بداية بالفترة التي سبقت الاستقلال.
توالى ظهور الكاتبة في الصفحات الأولى لعدد من الجرائد والمجلات الفرنسية والمغربية، ومعظم البرامج الثقافية التفاعلية في القنوات الفرنسية، وتم وضع الرواية على رأس قائمة الأفضل مبيعا في المكتبات الفرنسية، كما وزعت بكثافة في المكتبات، ولدى باعة الصحف في المغرب، وبثمن «تفضيلي» حدد بـ120 درهما (حوالي 12 يورو) مقابل 20 يورو في فرنسا، كما بدأت جولة ترويجية في فرنسا، كان من المفروض أن تتبعها جولة مماثلة في المغرب، قبل أن يأتي كورونا ليلغي كل شيء، مع اعتماد البلدين حجرا صحيا إجباريا منعت من خلاله كل التجمعات التي قد تسمح بالانتشار السريع للفيروس.
ثنائيات رواية نهرية لا تعلم
إلى أين سيقودك مجراها:
نحن هنا أمام رواية «نهرية» تتناول أجيالا متعاقبة من أسرة واحدة، كتبت وفق التقنية السردية الكلاسيكية لروايات القرن التاسع عشر الضخمة، التي عادت إلى الواجهة، مع موجة جديدة من روايات القرن الواحد والعشرين، نالت استحسان القراء (عكس الاعتقاد السائد برغبتهم في روايات قصيرة تناسب عصر السرعة) وقد تكون أشهرها «صديقتي المذهلة» لإيلينا فيرانتي، و«مقبرة الكتب المنسية» لكارلوس زافون، أو حتى «الحسون» لدونا تارت و«4321» لبول أوستر.
افتتحت الكاتبة روايتها باقتباس لويليام فوكنر، ومنحت الجزء الأول من ثلاثيتها عنوانا فرعيا هو: «الحرب، الحرب، الحرب»، كما اختارت الراوي العليم المحيط بدواخل كل الشخصيات، وهيكلت النص وفق جملة من الثنائيات التي تناولتها سليماني بوضوح: ثنائية فرنسا والمغرب، ثنائية المحافظة والتحديث، ثنائية المستعمِر والمستعمَر، وطبعا ثنائية الرجل والمرأة المفضلة عند المؤلفة، المعروفة بمناصرتها للقضايا النسوية وتأثرها (كما تقول) بأفكار وكتابات سيمون دو بوفوار.
تقدم الرواية مغاربة الأربعينيات والخمسينيات كمجموعة من المتخلفين الغارقين في الجهل، وبلغة تبدو في كثير من الأحيان أقرب للسخرية والاستهزاء، ولا يستثنى من هذا التعميم سوى من تعامل منهم مع الفرنسي
لغة رشيقة وحبكة مترهلة:
استخدمت سليماني لغة سلسة، أعطت السرد في رواية «بلد الآخرين» انسيابية، ربما افتقدتها روايات فرنكوفونية مغاربية سابقة، راهنت على الإبهار اللغوي فأتت بلغة فرنسية معقدة يعجز القارئ الفرنسي نفسه عن فك طلاسمها. لكن السلاسة هنا يقابلها ضعف ملحوظ في رسم الشخصيات، التي جاءت سطحية باهتة وبعيدة عن الواقع أحيانا (يصعب مثلا إيجاد جنديين من المغاربة المقاتلين في صفوف الجيش الفرنسي إبان الحرب العالمية الثانية يحملان اسمي أمين ومراد)، مع رتابة واضحة شابت تطور الأحداث، بما قد يدفع القارئ الملول إلى تجاوز صفحات كثيرة، إذ تتوالى مشاهد يمكن أن تبدو كاريكاتيرية أحيانا، ومبتورة أحيانا أخرى (بما يوحي إلى حد ما بإنجاز مشروع هذه الرواية على فترات متباعدة ومتقطعة وبدون تخطيط محكم لمسارها)، وتكاد تخلو من المنعطفات الحاسمة أو الانقلابات المفاجئة القادرة على شد انتباه القراء، إذا استثنينا ربما مشهد ثورة أمين على زوجته وشقيقته، التي اكتشف حملها من طيار فرنسي، وتهديده بقتلها بمسدسه، حيث استطاعت الكاتبة نقل مشاعر الغضب والخوف واليأس بدقة متناهية تحسب لها.
بحث تاريخي رصين؟
أم تجميع لكليشيهات سابقة؟
تشكر الكاتبة في الصفحة الأخيرة من الكتاب عددا من الباحثين والمؤرخين المغاربة الذين قالت بأنهم قدموا لها معلومات ساعدتها في تأليف الرواية، لكن المدقق في أحداثها سيتساءل بكل تعجب (إذا تجاوز وصفا سريعا لبعض المرافق الرئيسية في الشارع الفرنسي في مكناس): أين هو البحث التاريخي هنا؟
تقدم الرواية مغاربة الأربعينيات والخمسينيات كمجموعة من المتخلفين الغارقين في الجهل، وبلغة تبدو في كثير من الأحيان أقرب للسخرية والاستهزاء (خاصة عندما قررت ماتيلد افتتاح مستوصف صغير في بيتها لعلاج مرضى البادية) ولا يستثنى من هذا التعميم سوى من تعامل منهم مع الفرنسي، وربط معه علاقات صداقة أو عمل، وحده هذا النموذج من ينال شارة التحضر. المرأة المغربية في الرواية مهضومة الحقوق، لا يسمح لها بالتعبير عن رأيها، وقد تبدو أحيانا راضية بهذا الواقع (كحال مي لالة والدة أمين) أو متمردة مطالبة بحريتها (نموذج سلمى شقيقة أمين)، ولكن الحرية التي قدمتها الكاتبة هنا من خلال شخصية سلمى لم تكن باعتمادها على نفسها، وتفوقها في دراستها، وبالتالي حصولها على استقلاليتها الكاملة، بل بتحولها إلى مراهقة شبقة تخلصت من سيطرة شقيقها عمر (المنضم للحركة الوطنية) وانغماسها في ملذات التدخين والسكر، والعلاقات الجنسية المتعددة، وعندما حملت من الطيار الفرنسي لم يجد أمين حلا سوى تزويجها غصبا عنها من صديقه مراد (الذي لا نفهم هنا سبب التطرق لميوله الجنسية المثلية، وحبه الخفي لأمين قائده السابق في الحرب، بما يذكرنا إلى حد ما ببعض إنتاجات شبكة نيتفليكس).
شخصية أخرى أثارت انتباهي إلى حد كبير (رغم تعويل الكاتبة على ماتيلد للعب هذا الدور)، وأعتقد بأن دورها سيكون أكبر في الأجزاء اللاحقة لهذه الرواية. أتحدث هنا عن عائشة، ابنة أمين وماتيلد، التي لم يتجاوز سنها السابعة أو الثامنة في أحداث هذا الجزء، تتابع دراستها في مدرسة للراهبات، وتمارس الطقوس الكنسية مع زميلاتها (بدون أي تدخل أو ملاحظة من والدها، الذي لم يتذكر جذوره المسلمة إلا بعد فضيحة شقيقته) وحتى عندما يتعالى صياح والديها وشجارهما، بسبب المشاكل التي يواجهها مشروعهما الزراعي، تنزوي في غرفتها وتتلو الصلوات المسيحية، فهل يعني ذلك التمهيد لأزمة هوية ستعاني منها الصغيرة بعد تقدمها في السن؟ سنرى…
السؤال الأهم :
هل تكون الحملة الترويجية الضخمة للرواية في المغرب، وتقديمها بثمن «مخفض»، مجرد احتفاء بريء بالنموذج «الناجح» لليلى سليماني، ككاتبة مغربية شابة (مواليد 1981)، تنال الجنسية الفرنسية، وتنشر أعمالها مع دار غاليمار الغنية عن التعريف، وتفوز بجائزة الغونكور العريقة عن روايتها الثانية، وتصبح ممثلة خاصة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لشؤون الثقافة الفرونكوفونية؟ أم هي محاولة خفية لتقديم تاريخ «بديل» للأجيال الصاعدة، تاريخ نجد بأنه يتنكر (بل ويهاجم أحيانا) في رواية «بلد الآخرين» تضحيات المغاربة البسطاء وبذلهم الغالي والنفيس في سبيل الحصول على استقلالهم، ويصور المتظاهرين ضد الاستعمار والمنتمين للحركة الوطنية كمخربين، يقتلون ويخطفون ويقلقون راحة الفرنسيين، تاريخ يسعى لوضع مساحيق تجميل رديئة على الوجه القبيح للحقبة الاستعمارية الفرنسية؟
تصعب الإجابة عن هذا السؤال الآن، في ظل هيمنة واقع ضبابي تتصدره أخبار الجائحة، لكن بعض المؤشرات الأولية المستنبطة بعد قراءة العمل، ووجود أقلام أخرى سبقت سليماني في هذا التخصص، وحرصت على دعم الأخيرة ومباركتها، قد تكون كلها كافية للحسم فيه مستقبلا.
٭ كاتب ومترجم مغربي