تحت عنوان «استراتيجية تجديد أمريكا» نشر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مقالة في مجلة «فورين أفيرز» التي تصدر عن «مجلس العلاقات الخارجية «، والذي يزعم أنه «منظمة غير ربحية وغير حزبية مكرّسة لتحسين فهم السياسة الخارجية للولايات المتحدة والقضايا الدولية من خلال التبادل الحرّ للأفكار». المقالة وقعت في أكثر من 5400 كلمة، وتوزعت على محاور عديدة أبرزها خطوط السياسات التي اعتمدتها إدارة جو بايدن/ كامالا هاريس، وكفلت «العودة إلى اللعبة» في ميادين الاقتصاد والاستثمارات الخارجية والداخلية، ثمّ «الشراكة في السلام» بوصفها الركيزة الثانية في استراتيجية الإدارة على طريق «تفعيل وإعادة تخيُّل شبكة علاقات الولايات المتحدة» على أصعدة مواجهة روسيا والصين وتمتين الأواصر مع الحلف الأطلسي.
محور ثالث هو ردّ الفعل على ما يسميه بلينكن «نزعة تحريفية» في اختزال تحركات روسيا والصين، ثمّ إيران وكوريا الشمالية، الأمر الذي تمكنت واشنطن من تصحيح النظرة إليه على مستويات الشركاء في الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي و«أصدقاء أمريكا» هنا وهناك في العالم. محور رابع هو «التقارب الكبير» حسب تسميات بلينكن دائماً، الذي نجحت الولايات المتحدة في تحقيقه بعد الإرباك الذي شمل أوروبا والعالم بسبب الاعتماد على المنتجات الروسية من الغاز والنفط والفحم، وما يمكن أن ينجم عن نقصها من شقاق داخل صفوف أصدقاء أمريكا.
في محور خامس يعود بلينكن إلى مفهوم التحريف، من جانب روسيا والصين وإيران أساساً، على أصعدة شتى تعتبرها واشنطن انحرافاً (وليس مراجعة تحريفية فقط!) لأصول العلاقات الدولية كما تقبلها واشنطن؛ وبينها مسائل الشرق الأوسط، والسودان، وفنزويلا، ومناطق في أفريقيا وجنوب أمريكا. وذروة امتعاض وزير الخارجية الأمريكي، في سياق هذا المحور، هو تحوّل موسكو من التضامن مع دولة الاحتلال الإسرائيلي بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 إلى «تقوية الصلات مع حماس» وتلك في نظره خطيئة لا تُغتفر بالمقارنة مع منهجية واشنطن الموازية: «العمل بلا كلل مع الشركاء في الشرق الأوسط وما بعده لإنهاء الصراع وتخفيف معاناة غزّة، وكذلك إيجاد حلّ دبلوماسي يتيح للإسرائيليين واللبنانيين العيش بأمان على جانبَيْ الحدود، ثمّ إدارة خطر حرب إقليمية أوسع، والسعي إلى تكامل أكبر وتطبيع في المنطقة، بما في ذلك بين إسرائيل والسعودية».
وبمعزل عن توقيت نشر المقال، حين تواصل دولة الاحتلال الإسرائيلي فظائع الإبادة الجماعية في قطاع غزّة وترتكب شتى صنوف جرائم الحرب في الضفة الغربية والقدس المحتلة وجنوب لبنان، فضلاً عن انتهاكات مماثلة في عمق اليمن وسوريا وإيران؛ فإنّ بلينكن يعتمد ببساطة المبدأ القديم القائل بأنّ مَن لا يكترث بذرّة حياء، ففي وسعه أن يقول ما يشاء، وأن يصنع/ يصطنع محاور «تجديد أمريكا» وكأنّ قارئه كفيف العقل ذُرّت في بصيرته مقادير لا حدود لها من رماد كثيف كتيم. وليس عسيراً العثور على خلاصة كهذه، بصدد البون الشاسع بين أباطيل بلينكن، لدى العشرات من المراقبين والمحللين الأمريكيين أنفسهم، وليس في صفوف منتقدي السياسات الأمريكية على مدار الإدارات المتعاقبة فقط، بل كذلك في أوساط كبار الليبراليين والمحافظين من منتسبي الحزبين الديمقراطي والجمهوري على حدّ سواء.
إذا كان «الإرهاب» هو الذي يسفك الدم الأمريكي (الضالع أو البريء، العسكري أو المدني) فما الذي يغذّي هذا الإرهاب عاماً بعد عام، وعملية دامية إثر أخرى؟
مقالة بلينكن تؤكد، مجدداً وكما درجت عليه الحال منذ عقود، أنّ أحداً من كبار رجالات هذه الإدارة لا يعتزم، والأحرى القول: يأنف من، تعلّم أيّ درس مغاير بصدد هذه المحاور، وسواها كثير متعدد متنوّع. وفي هذه السياقات الراهنة تحديداً، حيث حروب الإبادة الإسرائيلية على وقع الغزو الروسي في أوكرانيا واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ثمة ذلك «المحور» الثابت الراسخ، إلا حين يتفاقم ويتصاعد: تأثيم المسلمين كافة (والعرب على رأسهم بالطبع)؛ حيث ألوان الكراهية تتجاوز خطاب المستشرق والأكاديمي والأنثروبولوجي في الكتب والجامعات، فيردّدها الجنرالات والساسة والمعلّقون، وتجري على ألسنة البشر في الشوارع. وما تزال المخيّلة السياسية الأمريكية الجَمْعية، وجناحها الليبرالي خاصة، شديدة الولع بالوصف وليس بالوصفة، وبتشخيص واقعة الشرّ المنفردة وليس الواقع الشرير العريض، وباللجوء إلى استثناء القاعدة وليس الاعتراف بوجود استثناء على هيئة قاعدة ثانية.
وهذه، في واقع الحال، مخيّلة أخرى غير تلك القاصرة التي سبق أن دفعت إلى تضخيمها تيارات «المحافظين الجدد» قبل أنصار دونالد ترامب والمجموعات الشعبوية العنصرية والنازية الجديدة؛ فهي، على شاكلة اختزالات بلينكن وأباطيله، واسعة فضفاضة متحررة من كلّ عقال، ترفض الإقرار بانزلاق أحفاد الحلم الأمريكي نحو أكثر أشكال الأصولية قتامة وجهالة وعنفاً، وتأبى الإنصات إلى الهدير الصاخب في فضاءات أمريكا ما وراء المحيط، وتعفّ عن إلصاق الأذن بالأرض لكي تتحقّق من شدة الارتجاج الآتي…
في المقابل، كان صعباً، أو بالأحرى غير مستحبّ وغير شعبي وغير ملائم، أن تتذكّر الولايات المتحدة سلسلة الحقائق الكفيلة بتنشيط المخيّلة، قبل انتشالها من خمول القناعات الكسولة إلى صحوة الحقائق الصلبة ـ الصعبة. «ذاكرة أمّتنا طويلة، وسطوتنا واسعة» هكذا أوضحت وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق مادلين أولبرايت في أوّل تعليق لها على انفجارَي نيروبي ودار السلام، قبل أن تعلن تخصيص مكافأة المليونَيْ دولار لمن يدلّ على هويّة الجناة. آنذاك امتزجت في التصريح نبرة التهديد والوعيد، بتلك الأطروحات الفلسفية حول الأسباب الكبرى التي تجعل الأمريكي المعاصر رائداً للديمقراطية والحرية والتسامح، قائداً للعالم الخيّر ضد العوالم الشريرة، وهدفاً للإرهاب والإرهابيين.
ومن جانب آخر، ألم تكن الأسئلة أوسع نطاقاً بما لا يُقاس عند تفجير المبنى الفدرالي في أوكلاهوما، على يد إرهاب أمريكي ــ أمريكي صرف؟ ألم تكن الإجابات أشدّ تعقيداً على سؤال واحد أثاره تفجير المجمّع العسكري في قلب الرياض، العاصمة السعودية، وبعده تفجير المقرّ الأمريكي في قاعدة الخبر؟ أليس في وسع المرء أن يبدأ من التناظر البصري العجيب (والرهيب حقاً) بين برجَيْ «مركز التجارة الدولية» ومبنى المقرّ الفدرالي في أوكلاهوما، والمبنى السكني الأمريكي في قاعدة الخبر، وخرائب نيروبي ودار السلام، إذا وضعنا جانباً السفارة الأمريكية في بيروت؟
صورة الخراب متشابهة، والتداعيات لا بدّ أن تخرج من منبع واحد لكي تذكّر بالسؤال الحارق المباشر: لماذا يُسفك دم الأمريكي هنا وهناك، بين ظهراني الأمّة كما في أصقاع بعيدة عن الأمة؟ السؤال الآخر غير المباشر يمكن أن يتفرّع ويتشعّب ويتنوّع، ولكنه سينتهي دائماً إلى معطى الحدّ الأدنى: إذا كان «الإرهاب» هو الذي يسفك الدم الأمريكي (الضالع أو البريء، العسكري أو المدني) فما الذي يغذّي هذا الإرهاب عاماً بعد عام، وعملية دامية إثر أخرى؟ وأيّة قضية، أو ربما أيّة شبكة معقدة من القضايا، هذه التي تستولد منظمة «إرهابية» إثر أخرى؟
وحدها الذاكرة القصيرة عن سابق قصد وتصميم وتضليل، كما في مقالة بلينكن، سوف تتناسى أنّ لائحة ديون الشعوب المستحقة على الولايات المتحدة طويلة متشعبة، بعضها جمرٌ متّقد تحت رماد خامد، وبعضها ينتظر الاندلاع، وبعضها الثالث من نوع يجري استيفاؤه بالعبوات الناسفة والعمليات الانتحارية. وإذا كانت تشكيلة الأعداء في الماضي تضمّ أسامة بن لادن ومنظمة «القاعدة» و«الإرهاب الدولي» و«الخطر الأخضر» الإسلامي الذي حلّ محلّ «الخطر الأحمر» الشيوعي… فإنها اليوم يمكن أن تضع، في سلّة واحدة، «حماس» و«حزب الله» وفلاديمير بوتين ونيكولاس مادورو؛ على أيّ نحو يريح المتخيّلين ويجعلهم أكثر اطمئناناً/ ذرّاً للرماد في الأبصار، واستيهاماً حول… تجدّد أمريكا.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس