بماذا هدد داوود أوغلو؟

حجم الخط
0

فتحت تصريحات مثيرة للجدل، أطلقها رئيس الوزراء التركي الأسبق أحمد داوود أوغلو، تكهنات متباينة بشأن ما قصده منها. ففي التوقيت نفسه الذي كان حزب العدالة والتنمية يحتفل فيه بذكرى تأسيسه الثامن عشر، كان داوود أوغلو الذي لم يدعً إلى الاحتفالية المذكورة يلقي كلمة في مدينة سكاريا، أطلق فيها تهديدات بـ«كشف المستور».
قال داوود أوغلو إن الفترة الممتدة بين انتخابات 7 يونيو/حزيران 2015، وانتخابات 1نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، هي من أكثر الفترات حساسية في التاريخ القريب، وأنه لو فتحت «دفاتر» تلك الفترة فهناك من سيخجلون من الظهور أمام الناس، في وقت كانت تركيا تواجه فيه حملات إرهابية كبيرة.
هذا الكلام الغامض تم تفسيره في إطار رد انتقامي من داوود أوغلو ضد أولئك الذين أقصوه من موقعه في قيادة الحزب والحكومة، ورداً على اتهامات البيئة الموالية له بـ«الخيانة» بسبب سعيه شبه المعلن لتأسيس حزب جديد يعود به إلى واجهة الحياة السياسية.
الطريف في الأمر أن تفسيرات متناقضة لكلامه الغامض جاءت من مواقع مختلفة. فوجه له حزب الشعوب الديمقراطي دعوة للإفضاء بما لديه من أسرار تلك المرحلة القاتمة، في حين فسر آخرون كلامه كنقد للرئيس أردوغان الذي اعترض، في تلك المرحلة، على مساعي داوود أوغلو لتشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري المعارض.
ولم يتأخر أردوغان في الرد، فقال، بعد بضعة أيام، إن في الذاكرة الكثير من الأمور التي يمكن الكشف عنها في الوقت المناسب. وكتب الصحافي في جريدة «هرييت» المعروف بنقله لكواليس الحكومة والرئاسة إلى الرأي العام قائلاً إن أجندة الرئيس، في المرحلة المقبلة، ستركز على تقويض جهود الحالتين الانشقاقيتين اللتين يقودهما داوود أوغلو من جهة، والثنائي علي باباجان وعبد الله غل من جهة أخرى.
وهكذا انتشرت تكهنات بشأن «حرب شرسة» على الأبواب داخل بيئة الحزب الحاكم بين الرئيس ومواليه من جهة، والمنشقين من جهة أخرى، وبخاصة أحمد داوود أوغلو.
لكن الصحافي في جريدة «قرار» المقربة من داوود أوغلو، يلدراي أوغور، قرأ الحدث بطريقة مختلفة تنفي جميع تلك التكهنات وتردها إلى قراءة منقوصة ورغبوية بما يؤكد المؤكد في وعي أولئك المتكهنين. فأعاد أصل الانحراف في قراءة تصريحات داوود أوغلو إلى اقتطاع 27 ثانية من كلمته التي استغرقت ساعة كاملة، قائلاً إنهم لو كلفوا أنفسهم بالاستماع إلى كامل الكلمة لما وقعوا في فخ التفسيرات الرغبوية المضللة. ففي بقية كلمة داوود أوغلو شرح لما هدد به من «كشف المستور» فلم يكن هناك أي مستور.

بدأت جولة رئيس الحكومة داوود أوغلو على الأحزاب الممثلة في البرلمان لتشكيل حكومة ائتلافية. اصطدمت تلك المحاولات إما بعدم تجاوب من أحزاب المعارضة، أو بعدم رضى الرئيس أردوغان حين حدث تجاوب مع بعض الصيغ

كان الرجل، وفقاً لأوغور، يرد على هتافات واجه بها جمهور قومي محافظ في شوارع مدينة سكاريا رئيس الوزراء السابق، اتهمه فيها بـ«دعم الإرهاب» (!) بسبب انتقاده لعزل رؤساء بلديات ديار بكر وماردين ووان – وجميعهم من حزب الشعوب الديمقراطي ـ بقرار من وزير الداخلية، وتعيين محافظي تلك المدن بدلاً عنهم. فكان رده اتهاماً مقابلاً لرئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي بأنه في «تلك الفترة الحرجة» رفض اقتراحات رئيس الوزراء بتشكيل حكومة ائتلافية، بثلاث صيغ مختلفة، في الوقت الذي كانت الحكومة فيه تحارب الإرهاب. كذلك اعتبر أوغور نقد داوود أوغلو موجهاً لـ«لوبي» داخل حزب العدالة والتنمية كان يقوم بدس الدسائس ضده في مؤتمر الحزب، في أكتوبر/تشرين الأول 2015، في الوقت الذي كانت حكومة داوود أوغلو تحارب فيه الإرهاب. نفس اللوبي الذي سينجح، في الأشهر اللاحقة، في شن حملة «مغفلة» على شبكة الانترنت ضد داوود أوغلو وصولاً إلى إرغامه على الاستقالة من رئاسة الحكومة ورئاسة الحزب في أوائل مايو/ أيار 2016.
فيما يلي عرض موجز للأحداث التي جرت في تركيا، في الفترة التي أشار إليها داوود أوغلو في كلمته:
في 7يوليو/ حزيران 2015 جرت انتخابات برلمانية حصل فيها حزب العدالة والتنمية على 41٪ من أصوات الناخبين، مقابل 13٪ لحزب الشعوب الديمقراطي الذي حصل بموجب هذه النسبة على 80 مقعداً برلمانياً، الأمر الذي فقد معه الحزب الحاكم القدرة على تشكيل حكومة بمفرده. وبدأت جولة رئيس الحكومة داوود أوغلو على الأحزاب الممثلة في البرلمان لتشكيل حكومة ائتلافية. اصطدمت تلك المحاولات إما بعدم تجاوب من أحزاب المعارضة، أو بعدم رضى الرئيس أردوغان حين حدث تجاوب مع بعض الصيغ. ثم بدأت سلسلة من العمليات الإرهابية تهز تركيا، كمجزرة أنقرة التي راح ضحيتها 103 مدنيين ونسبت إلى «داعش»، ومثلها مجزرة سروج التي قتل فيها 33 ناشطاً مدنياً، وقتل شرطيين في منطقة على الحدود السورية تبناها حزب العمال الكردستاني.
أضف إلى ذلك أن قيادة «الكردستاني» في جبل قنديل قد تشجعت من الفوز الانتخابي الكبير لحزب الشعوب الديمقراطي، فدعت إلى إطلاق «حرب شعبية ثورية» في إطارها حفرت خنادق في مداخل المدن ذات الكثافة السكانية الكردية وتسلح شبانها وانتظموا في منظمات «الدفاع الذاتي». فكان مجموع تلك الأحداث بمثابة فرصة للحكومة في إطلاق حرب ضد تلك المدن، مما جعل هاجس الأمن يتصدر اهتمامات الناس الذين عادوا للتصويت لحزب العدالة والتنمية بكثافة في انتخابات الإعادة في الأول من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، حيث نال «العدالة والتنمية» 50٪ من أصوات الناخبين واستعاد الغالبية المطلقة في البرلمان بما يكفيه لتشكيل حكومة بمفرده.
حزب الشعوب الديمقراطي اشتم في تصريحات داوود أوغلو ما يرغب بسماعه من دسائس حكومية أدت إلى إشعال تلك الحرب الدموية، بما يبرئ حزب العمال الكردستاني من حصته من المسؤولية عن اندلاعها.
الحق أن تفسير أوغور أقرب إلى المنطق، فلا يمكن أن نتوقع من داوود أوغلو أن يدين الحكومة باعتبارها المتسببة في إشعال الحرب، لأنه كان رئيسها، وإدانة الحكومة تعني إدانته لنفسه قبل كل شيء.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية