غزة – «القدس العربي»: أجبرت الحرب الإسرائيلية المتواصلة للعام الثاني على التوالي، سكان غزة المحاصرين، على ارتداء ملابس بالية، أو إعادة تدوير ما يملكون من ملابس رثة ومهترئة، أو حتى شراء ملابس مستخدمة بأثمان عالية، والمشي بدون أحذية، بعد أن نفدت غالبية الملابس من الأسواق، وباتت أثمان المتوفر منها يفوق قدرات السكان الذين صنفهم البنك الدولي، أنهم جميعا فقراء.
وقد لا يصدق العقل ما آلت إليه الظروف الصعبة في هذه الأوقات في قطاع غزة، اذ اضطر الكثير من النساء، إلى ارتداء ملابس خاصة بالرجال، تكسوها بعباءة قديمة وبالية من القماش الخفيف، لتقي نفسها برد الشتاء، فيما يرتدي الأطفال ملابس أكبر من حجمهم، أو أخرى ممزقة، وبات الأمر معتادًا في كافة مناطق القطاع التي تعاني من ويلات الحرب والنزوح.
والمعروف أنه منذ الشهر الثاني على بدء الحرب، ومع بداية تدني درجات الحرارة، ظهرت أزمة الملابس في قطاع غزة، لكن بشكل أخف مما هي عليه الآن، إذ كان بمقدور الكثير من الأسر في ذلك الوقت شراء القليل من الملابس، وهو أمر تراجع كليا في هذا الوقت، بسبب ارتفاع أثمانها أولًا، وقلة المال المتوفر لشرائها.
فمع بدايات الحرب، لم تكن أثمان الملابس مرتفعة بالشكل الحالي، وكان الكثير من المحال التجارية يتوفر فيها كميات ليست بالقليلة، بخاصة وأن معظم التجار كانوا يتجهزون لموسم الشتاء لعرض بضائعهم.
غير أن طول مدة الحرب، وتلف الكثير من الملابس إما داخل المخازن، أو المحال، أو المنازل التي قصفت أو أحرقت، جعلت ما هو متوفر منها في هذا الوقت أقل بكثير من الطلب، لا سيما وأن سلطات الاحتلال لم تدخل أي شاحنات ملابس للسكان منذ بداية الحرب، وهو ما ساهم في تصاعد الأزمة.
الاحتلال منع إدخال الثياب… والأطفال يبكون بردًا
وتقول نسرين عبد الرحمن، التي نزحت منذ الشهر الثاني من مدينة غزة إلى وسط قطاع غزة، وتقيم مع أسرتها المكونة من سبعة أفراد، في أحد خيام النازحين غرب مخيم النصيرات وسط القطاع، لـ القدس العربي، إنها وقت النزوح لم تتمكن وأفراد أسرتها سوى من حمل أربع حقائب صغيرة، حين مروا من «محور نتساريم» الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه.
وفي تلك الحقائب، تقول هذه السيدة، كانت بعض الملابس التي اخرجتها من خزائن المنزل، تخص بالدرجة الأولى الصغار.
وتضيف «مع طول مدة الحرب، اشترينا بعض الملابس منها المستخدمة، لكن المتوفر حاليا لا يكفي شيئا»، وتشير إلى معاناة أفراد الأسرة كبارًا وصغارًا من البرد، في هذه الأجواء، فلا الأغطية متوفرة ولا الملابس التي تدفئ الأجساد، وهو ما ظهر جليا من خلال إصابة الأطفال بنزلات برد شديدة. وتضيف «والله أطفالنا في الليل يبكون من شدة البرد».
ولم يكن حال هذه السيدة التي اشتكت من قلة الملابس أفضل مما تحدث به أبو محمود.
والرجل في نهاية الأربعينيات، ويقطن وسط القطاع، بعد أن دمرت غارة إسرائيلية منزله الشتاء الماضي، حين كانت أسرته تنزح كباقي سكان مخيم النصيرات في مدينة رفح جنوبي القطاع، بناء على أوامر أصدرتها في ذلك الوقت جيش الاحتلال.
ففي رحلة نزوحه حمل أبو محمود وأشقاؤه القليل من الأمتعة والملابس، على أمل العودة بعد وقت قصير إلى منزله، لكن حجم الركام الذي أتى على جميع مقتنيات العمارة السكنية، حال دون إخراج أي قطعة من الملابس، والتي يقول إنها لو خرجت، كانت ستكون ممزقة من شدة الانفجار.
ولم يجد هذا الرجل سبيلًا، بسبب قلة الملابس المتوفرة في الأسواق، وارتفاع ثمنها، مع عودته بعد انتهاء تهديد الإخلاء القسري، سوى شراء بعض «ملابس البالة»، وهي ملابس قديمة ومستخدمة من قبل. وكانت تصل القطاع عبر تجار في «شوالات كبيرة». ولجأت زوجته وزوجات أشقائه إلى إعادة تدوير الملابس الكبيرة منها، لتصبح صالحة لاستخدام أفراد الأسرة كل حسب حجمه، بما فيهم الكبار والصغار.
ويضيف أبو محمود لـ «القدس العربي»: «في هل وقت صار أمر عادي تمشي بالشارع في كم رقعة او خياطة قطع الملابس ظاهرة أمام الناس».
وحاليًا، تلجأ النساء لتدوير الملابس أو وضع «رقع» ظاهرة في ملابس الأطفال بالحياكة اليدوية، حيت لم تعد غالبية ورشات الخياطة تعمل بسبب انقطاع التيار الكهربائي، رغم أن الخياطة اليدويّة تترك أثرًا بارزًا في الملابس.
والمتجول حاليا في شوارع قطاع غزة، سواء بين المنازل أو أماكن النزوح والخيام، يرى حجم المأساة. فهناك بات أمر مشاهدة الأطفال وهو يرتدون ملابس ممزقة أو ملابس تفوق أعمارهم، عاديّا. ففي غزة تعتبر معظم العائلات نازحة، أو عانت النزوح، حيث قدرت احصائيات أعدتها منظمات دولية أن 1.9 مليون أصل 2.2 مليون نسمة، نزحوا مرة أو مرات عدة، ولم تتمكن هذه العوائل من حمل أمتعتها وملابسها كاملة خلال الخروج، إما خشية من عناء حملها، أو ظنًا بالعودة القريبة، فيما القسم المتبقي من العوائل التي تقطن في منازلها، فقدت الكثير من مقتنياتها بما فيها الملابس، سواء من القصف الذي طال محيط سكنها، أو عندما تقاسمتها في أوقات سابقة مع عائلات نازحة. وبات الجميع يعاني من قلة ما يقيهم من برد الشتاء.
وأظهرت المشاهد والصور التي تناقلتها مؤخرا مواقع التواصل، أطفال غزة، وهم يرتجفون بردا جراء المنخفض الجوي، وآخرين يتنقلون بين الشوارع وهم حفاة، بعد أن تمزقت أحذيتهم، دون أن يتوفر لهم البديل، سوى ما صنع بشكل بدائي ويدوي.
ومع تزايد الحاجة إلى اقتناء الملابس بأي شكل من الأشكال، لجأ بعض العاملين في مهنة الخياطة إلى تشغيل ماكيناتهم يدويا دون الحاجة إلى التيار الكهربائي، رغم أن الأمر يحتاج إلى جهد ووقت كبير. وقد بدأ الكثير من الأسر بالوصول إلى تلك الورش، وهي تحمل قطع قماش قديمة وستائر المنزل، لتحويلها إلى ملابس شتوية للأطفال.
ويقول عمر بركات، ويعمل خياطُا، في حديثه مع «القدس العربي»، إن الأقمشة التي يقوم بحياكتها في هذه الأوقات، غير مخصصة لصنع الملابس، وبعضها ذو ملمس سيء على الجسم، لكن حاجة السكان تجبر الجميع على هذا الأمر، ويضيف «ما ظل أي بديل».
وبسبب أزمة الملابس، تكسو أنوار صالح طفلها الرضيع الذي وضعته قبل أيام قليلة.
وقد حصلت على ملابس له من شقيقته الكبرى ، ولجأت إلى تصغير حجم هذه الثياب، بما يمكنها من استخدامها خشية من عدم توفر ما يكسو طفلها مع نمو جسده بعد أشهر. وتخشى أنوار استمرار أزمة الملابس والمال اللازم لشرائها، وتقول لـ»القدس العربي»: «الي عايشناه علمنا إن المتوفر اليوم صعب يكون بكرة».
ولجأت أسر من غزة، إلى عرض بعض ملابسها المستخدمة للبيع عبر مواقع التواصل، أو على بسطات في الأسواق الشعبية، مقابل أثمان مرتفعة، على أمل استخدامها في شراء بعض احتياجات الطعام الأساسية.
وأكد «المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان»، أنّ إسرائيل تمنع منذ أكثر من عام إدخال الأغطية والملابس والأحذية إلى قطاع غزة، بما يشمل احتياجات الأطفال، في ظل دخول موسم برد قارس وظروف إنسانية كارثية.
وتحدث التقرير الحقوقي عن الحلول المؤقتة التي لجأ إليها الأهالي، مثل صناعة الأحذية للأطفال من الخشب والبلاستيك، وقال إنهم يضطرون بسبب شح الملابس إلى ترقيع الملابس البالية أو حياكتها من بطانيات، فيما يتمكن فقط من لديه مقدرة مالية من شراء تلك البدائل.