بنية النظام السياسي الأوروبي والهوية الثقافية

سياسة التكامل التي تم انتهاجها في أوروبا الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ظلت تأخذ بمتطلبات نموذج الدولة القومية، وعملت على «خلخلة الحدود السياسية والاقتصادية والثقافية البينية» من أجل إنهاء الصراعات التي شهدتها أوروبا لعقود.
ومع سياسة التكامل الاقتصادي أواخر القرن العشرين، أصبحت الدول الأوروبية ترى في حدود الاتحاد حدودها المشتركة مقابل العالم الخارجي، وعلى أساس ذلك تحددت الهوية الأوروبية، ويسعى القادة السياسيون منذ عقود إلى الحفاظ على هذه الروابط وتمتينها. ويدرك الأوروبيون أنه من دون بنية هرمية أكثر فاعلية بين دول الاتحاد الأوروبي لن يكون بإمكانهم اتخاذ القرارات الضرورية، للحضور الخارجي ضمن السياسات الدولية. ولذلك يشكل خروج بريطانيا من النادي الأوروبي خطرا لأكبر تكتل اقتصادي في العالم، فخلق منطقة نقدية وتجارية موحدة في أوروبا مثّل تحديا للهيمنة الأمريكية إثر الحرب الباردة، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة لزيادة حضورها العسكري واستعراض قوتها التدميرية في أكثر من بلد أجنبي، محاولة منها لتحويل المنافسة من الاقتصاد إلى مجال القدرات العسكرية، وافتكاك زمام المبادرة السياسية، إضافة إلى محاولات واشنطن تقويض التقارب السياسي بين الأوروبيين، من خلال زرع بذور التنافر السياسي بين قادتهم وتحقيق رغبة أمريكية مكشوفة في تفكيك النسيج الوحدوي لهذه الدول. وقد أظهر ترامب دعمه الواضح لخروج بريطانيا من الاتحاد، وخلال زيارته الأخيرة إلى لندن، اعتبر أن إجراء اتفاقية تجارة حرة مع بريطانيا سيكون «مثيرا للأعجاب» حال خروجها من البريكست، وتشعر الولايات المتحدة بالالتزام حيال ابرام اتفاقية من هذا النوع، التي من شأنها زيادة حجم التجارة المشتركة بين البلدين.
وفك بريطانيا ارتباطها بالتكتل الأوروبي سيقوي في تقدير الإدارة الأمريكية حلف الناتو، ويُرجعه أكثر فاعلية بوجود «دولة أخرى قوية ومستقلة». ويبدو أن حادثة احتجاز لندن سفينة النفط الايرانية في جبل طارق تدعم هذه المسارات، وفور تخلصها من قيود التكتل التجاري الأوروبي، ستكون المملكة المتحدة حليفا قويا لواشنطن، في مواجهة روسيا والصين تحديدا في الحرب التجارية التي أعلنها دونالد ترامب. ومثل هذه المساعي الأمريكية تمظهرت في أكثر من خلاف في السنوات الأخيرة في قضايا دولية وملفات كبرى، وتُرجمت أيضا بالفتور بين إيطاليا وفرنسا في مستوى تصريحات متبادلة، آخرها ما جاء على لسان وزير الداخلية الإيطالي ماتيوسالفيني في أكثر من مناسبة، هاجم فيها سياسات فرنسا الاستعمارية ونهبها لثروات الدول الافريقية وتفقير شعوبها، الأمر الذي يتسبب في تواصل موجات الهجرة غير الشرعية التي تتضرر منها إيطاليا الأقرب إلى حوض البحر الأبيض المتوسط.

أغلب الأوروبيين مازالوا حريصين على المشروع الوحدوي الذي رفع مستوى معيشتهم وحافظ على سلام لم يكن متوفرا بينهم

تزايد توتر العلاقات السياسية الدولية، وموجة الاحتجاجات التي تواصلت أشهرا متتالية تحت مسمى أصحاب «السترات الصفراء»، وموقع دول الاتحاد وسياساتها الخارجية، تعد عناوين واضحة لمتغيرات سياسية كشفت عنها الانتخابات التي انعقدت بين 23 و26 مايو/أيار في 28 بلدا أوروبيا، بهدف تشكيل برلمان أوروبي، وانتهت بتراجع الأحزاب التقليدية وهزيمة بعضها. وهي نقطة تحول مهمة تعكس مزاج الرأي العام ونظرة المواطنين في هذه البلدان، الذين شاركوا بنسب جيدة، قطعت الجدل الذي ارتبط بتراجع المشاركة الشعبية في الانتخابات، ووصل إلى اعتباره «عجزا ديمقراطيا» يقوض شرعية الاتحاد الأوروبي. كما أنها كشفت بوضوح استياء نسب كبيرة من الأوروبيين من الوضع الراهن في بلدانهم، فمجرد أن تظهر الأحزاب التقليدية في أوروبا من اليمين واليسار الوسطيين، وهي تصارع للبقاء أمام محاولات اليمين القومي اكتساح البرلمان الأوروبي، فتلك علامات فشل في معالجة قضايا الاقتصاد والهجرة والتطرف والتغير المناخي وخلل السياسة الخارجية. وتعد مؤشرا لتحولات سياسية في الانتخابات الوطنية المقبلة في مُجمل دول الاتحاد الأوروبي.
الأغلبية الساحقة من الأوروبيين، مازالت حريصة على المشروع الوحدوي الذي رفع مستوى المعيشة لدى معظمهم، وحافظ على سلام لم يكن متوفرا بينهم في أي فترة تاريخية سابقة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. والوعي السياسي والاجتماعي المتعلق بالمصالح الاقتصادية ضمن الاتحاد هو الذي أربك محاولات بريطانيا الخروج من هذا الاتحاد الاقتصادي والسياسي، ولكن المعادلة الأوروبية السائدة منذ أربعة عقود دُونها عقبات كثيرة. فهل يصمد المشروع الأوروبي الذي تُدافع عنه تشكيلات سياسية تقليدية، أمام تيارات يمينية قوية صاعدة تدعو إلى الانفصال عن الاتحاد أو تقليل سلطاته؟
أعتقد أن الأمر مرتبط بتغير المشهد السياسي في الانتخابات القُطرية المقبلة، والمؤكد أن وهنًا أصاب الجسم السياسي الأوروبي الأمر الذي أعاد إلى الساحة الأحزاب الشعبوية القومية المتطرفة للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية، وليس ذلك مفاجئا أمام ضعف الاستجابة للاحتجاجات الاجتماعية والسياسية في فرنسا، وغيرها من بلدان أوروبا الغربية، التي تطالب في مجملها بتحسين أوضاعها المعيشية، والحد من التعسف الضريبي أمام الفئات المتوسطة والكادحة، في دولٍ لديها ماضٍ استعماري مخجل وسوداوي، مازالت تبحث في استعادة بعض التقاليد الاستعمارية بسلوك مكشوف، وتسيطر على مقدرات الدول وتنهب ثرواتها، في شبه تملك ووصاية إن لم يكن منطق غلبة وقسر. ومثل هذا السلوك كشف عن «أسوأ الجوانب في الحضارة الغربية» ألا وهي شهوتها الجامحة للسيطرة وعدم احترامها لثقافات «الغير»، وأنانيتها المفرطة والمنطق الأعوج للمصالح الجيوسياسية، الذي يُظهر استخفافا بالغا بأرواح البشر وكرامتهم الإنسانية، وحقهم في التمتع بثروات أوطانهم، بما يعزر شعورهم بالانتماء وفخرهم به.
من المجموعة الأوربية للفحم والصلب، النواة المؤسسة للجماعة الاقتصادية الأوروبية ثم للاتحاد الأوروبي، من الحرب إلى الوَحدة، أعادت القارة العجوز تشكيل مؤسساتها، منفتحة على ثقافة سياسية جديدة، ولكنها تقف اليوم أمام مستقبل فيه الكثير من الاختلاف والتناقض بين التيارات الوطنية، ويفصح عن تحديات كبرى ضمن التحولات العالمية المتسارعة وديناميكية العلاقات الدولية.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أحمد عمر:

    «فخلق منطقة نقدية وتجارية موحدة في أوروبا مثّل تحديا للهيمنة الأمريكية إثر الحرب الباردة، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة لزيادة حضورها العسكري واستعراض قوتها التدميرية في أكثر من بلد أجنبي، محاولة منها لتحويل المنافسة من الاقتصاد إلى مجال القدرات العسكرية، وافتكاك زمام المبادرة السياسية، إضافة إلى محاولات واشنطن تقويض التقارب السياسي بين الأوروبيين».-
    السيد/ لطفى العبيدى.
    إذا كان حال الاتحاد الأوروبى المتماسك
    المترابط، المتجانس(¹)، المتفاهم، إلى آخر تلك العبارات النيِّرات، مع أمريكا
    مهدد بالاختراق لتفكيك مفاصل ذلك
    الاتحاد الذى أصدر لكيانه الصناعى
    الاقتصادي المعتبر، عملة نقدية مستقلة،
    تَحدَّى بها بمنافسة عملية واقعية، العملة
    النقدية الأمريكية، وبصناعات راقية، تكنولوجية وغبر تكنولوجية، الصناعات
    الأمريكية الراقية أيضا…
    فضلا لو صالح …

  2. يقول أحمد عمر:

    فما هو حال الاتحاد العربي يا ترى من
    التدخلات الأمريكية فى منطقتنا العربية؟!
    والحقيقة، فإذا كانت الأبواب العربية
    (مِفَنْدَقة) على البحرى والبَرّى للدخول
    الأمريكي24 ساعة بحُرّية مطلقة، فلذلك سببان عظيمان، شرحهما يطول.
    أحدهما سلبى، والثانى إيجابي.
    فالإبداع الصناعي والتكنولوجي، بطبيعته يلفظ الفوضى والهمجية، ويؤرقه أن يراها فى بقعة من العالم.
    هذا عن الجانب الإيجابى للتدخل الأمريكي الذى يراد به تصحيح أوضاع
    مقلوبة صناعيا وتكنولوجيا، عربيا.
    أما الجانب السلبي للتدخل الأمريكي فى
    المنطقة، هو أنه قد فاته أنه هو الذى
    خلق تلك الفوضى والهمجية، باتّباعه
    سياسات غير متوازنة بين الفلسطينيين
    والإسرائيليين لصالح إسرائيل، بالاستقواء واستعراض عضلاته على
    أصحاب الأرض الأصليين الفلسطينيين.
    فضلا لو صالح للنشر…

  3. يقول أحمد عمر:

    فمن المتعارف عليه أن الشعوب لا تعمل
    فى مناطق صراع، وأن أصحاب الثروات
    سيهربون بها إلى خارج منطقة لا تهدأ
    فيها طلقات الرصاص ليل نهار وهى تحصد يوميا عشرات القتلى والجرحى،
    مرة هنا، ومرة هناك داخل البلدان العربية.
    فأن تحصل على استثماراتى بمخططات
    غير أخلاقية لخدمة اقتصادك والتنمية
    عندك، وتغور شعوب المنطقة العربية فى
    ستين داهية، فهذا أمر يحتاج أن يفهمه
    بعض القادة العرب بأن يسرعوا إلى
    تكوين اتحاد عربى على غرار الاتحاد
    الأوروبي، إذا كنا بالفعل نغار على الكرامة
    العربية.
    وبالمناسبة: لو كان تحقق هدف تكوين
    اتحاد عربى بعد نكسة 1967 مباشرة،
    بمقاييس الاتحاد الأوروبي بالضبط، لكانت إسرائيل تراجعت منذ زمن إلى
    حدود ما قبل 1967!…
    فضلا لو صالح للنشر…

  4. يقول أحمد عمر:

    ولكانت معدلات البطالة انخفضت، ولكان
    لنا اليوم عملة نقدية موحدة تقف بشموخ بجانب ورقَتَيّ اليورو والدولار
    بالأسواق العالمية.
    ولكن ماذا تقول عن الكرم العربي الذى
    يستقبل أفكار الصهيونية العالمية
    الشيطانية الموجهة إلى بلداننا العربية،
    بكرم منقطع النظير!! يُذهل عقول
    الحكماء من الأمة.
    شكرا لكم..
    شكرا للقدس العربي الكبير.
    من طرَف رجل شارع عربي.
    ————————————–
    1- المتجانس:
    ( الأحياء) :
    وصف للكائنات الحيّة المتّفقة
    في الأصل والشكل والنوع.
    ونحن غير متفقين عربيا!!…
    فضلا لو صالح للنشر…

    1. يقول لطفي العبيدي:

      صديقنا العزيز : أحمد عمر
      أشرقت أيامك
      الاتحاد العربي مأمول و مرغوب فيه، و إمكانات تحققه واردة بتحقق متتطلبات هكذا مشروع. و أيضا بالشكل الذي أشرت إليه بملاحظاتك المتميزة.
      مثل هذه الهواجس نشاركك فيها و قد كتبنا الكثير في شأنها، والقدس العربي التي تحييك بدورها تشهد صفحاتها على منشود التكامل العربي و المشروع الوحدوي والرغبة في إزالة الخلافات العربية العربية و حسم قضية فلسطين باتجاه بناء الدولة على أرض فلسطين التاريخية دون بيع أو تفريط.
      و نحن نحارب مركب الهيمنة الأمريكية-الغربية على اعتبار ما تمارسه هذه الأطراف من عنف و قهر لشعوب المنطقة وما تتمادى فيه من مصادرة لحقها في العيش بسلام .
      كل التقدير و الفخر
      دمت متابعا وفيا للقدس العربي . ودامت تعليقاتك الموجهة و الجدية

  5. يقول أحمد عمر:

    السيد المحترم/ لطفى العبيدى..
    نحن الذين نشكركم، إتاحة مساحة بموقع
    القدس العربي الكبير المستقل، للتعبير عن
    همومنا كقراء. شكرا جزيلا ردكم الكريم،
    وشكرا للقدس العربي الكبير.
    عاش الشعب الفلسطيني، حرا أبيا كريما.

إشترك في قائمتنا البريدية