في التصنيف الإنساني، أو العاطفي، حين تحتك بكثير من المثقفين والأدباء، في أي مكان، تجد دائما صفات أو ألقاب إنسانية تخطر بذهنك، ولا تفارق هذا الذهن، لتستخدمها دون تفكير في وصفك لهم.
هذا بالطبع ليس قانونا أو عرفا، لكن شعورا عاطفيا براقا أنت نفسك تستغرب له. هناك دائما من يحمل صفة الخال، ويمكن أن يكون خالا حقيقيا لكل من قصده يبحث عن تلك الصفة، وكان الراحل الطيب صالح، والراحل عبد الرحمن الأبنودي، جديرين بها وتحس عند احتكاكك بهما معنى تلك الصفة، وكنت كتبت مرة مقالا عن الطيب، سميته: خال الجميع، وعددت أشخاصا التقيت بهم، في الحياة. وكل واحد يقول لي دون أن يعرف صلتي بالطيب: أنا خالي الطيب صالح، ولم يكن الطيب خال أي واحد منهم، لكنه الإحساس القاهر بتلك القرابة العاطفية. الطيب نفسه كان يحس بأنه خال للجميع، فتجده دائما يقول: ابن أختي فلان، حين يذكر شخصا يعرفه.
أيضا صفة العم، وهي قد يعني بها البعض، الأستاذ، أو المشرف على الأمور، لكن تبدو أيضا لائقة ببعض الكتاب، بينما لا تستطيع إلصاقها بالبعض الآخر، الجزائريون مثلا، دائما ما يقولون: عمي الطاهر، حين يتحدثون عن ذكرياتهم عن الراحل الطاهر وطار، لدرجة قد تفكر أن كلمة عمي اسما وليس صفة عاطفية، أراد الجميع أن يرتبطوا بها بكاتب يستحقها. الراحل بهاء طاهر، من الذين يمكن أن تناديهم عمي، أو تلصق بهم صفة العم في سهولة شديدة، ومن أول لقاء لك بهم، وأظنه يحمل كل الصفات الدالة على أنه أحد الأعمام الكتابيين، الذين فقدناهم فعلا، وكان مجرد وجودهم أو الإحساس بوجودهم حتى لو كانوا بعيدين، يمنح ما نحاول أن نكتبه ونسميه إبداعا، إحساسا بالطمأنينة.
فقد كان بهاء طاهر لو تحدثنا عن كتابته بعيدا عن صفة العم، كاتبا قديرا مهتما بصياغة عوالمه الخاصة، والتميز بها وسط أبناء جيله، وكانوا كلهم مبدعين ومتميزين، كل أجاد بطريقته، وطبعا لا بد من ذكر واحد مثل عبد الحكيم قاسم، الذي لو كتب أكثر مما كتبه، لملأت مدرسته الكتابية الدنيا كلها، عبد الحكيم كان بمثابة أستاذي شخصيا، لكن لا تستطيع أن تلصق به صفة العم، ربما لإحساس أكبر، إنه قد يكون أخاك، على الرغم من فارق العمر.
قلت كان بهاء يحمل صفات العم كلها تقريبا، فالرجل كان سلسا في تعامله، سريع التآلف مع الكتاب الصغار الذين قد يلتقيهم أول مرة، والكتاب الذين تعرف إليهم بالفعل، وكانت معرفته مكسبا، فهو من الذين يمكنك أن تطلب منهم حضور فعالية لك في أي مكان دون حرج، وغالبا سيأتي، من الذين قد تطلب مهم كتابة مقدمة لرواية أو قصص أو حتى مجموعة شعرية لك، ويتلقى المخطوط ويكتب لك دون أي تذمر، أو ملامح ساخطة، أيضا يمكنك أن تغير مسار عاداته بسهولة، مثلا تقتحم جلسته في مقهى معين، اعتاد الجلوس فيه، وتصطحبه إلى مقهى آخر، سيذهب إليه معك بلا أي مشكلة، ولو طالعنا الصور التي ينشرها الشباب مع الكتاب المخضرمين، لعثرت على صور كثيرة مع بهاء طاهر بالتحديد، ذلك أنه العم، وأنه الأسهل في التعامل معه. كذلك لو قمت بإحصاء كلمات الغلاف للكتاب الجدد، التي صدرت في أي سنة من السنوات الأخيرة، لعثرت على توقيع بهاء على معظمها، وهذا ليس تشتيتا للاسم بلا أي حساب، فالعم يقرأ ما يقدم إليه، وأظنه يكتب للذي يستحق الكتابة له، وبالطبع لن يغامر صاحب اسم كبير بوضع اسمه هكذا دون أن يقرأ العمل، هو يقرأ، وقد يأتي بمزاج رائق ليحضر مناقشة الكتاب عند صدوره ويتحدث عنه بسخاء.
بالنسبة لتغيير الخطط الذي ذكرته، فنحن دائما نغير خططنا بحسب ترتيب العمر والشهرة، مثلا الكاتب الشاب قد يغير مسار يومه، إن طلب منه كاتب كبير هو يحترمه ويحبه ذلك، لكن أعتقد مسألة بهاء مختلفة، تماما، وهذه من صفات العم التي لا يتمتع بها الكثيرون، وبالطبع يوجد كتاب مخضرمون كثيرون، لا يحبون أصلا أن يلتقوا بأحد أو يسمعوا عن أحد، هؤلاء صنعوا أبراجهم الوهمية وعاشوا داخلها، وللأسف يوجد في جيلنا من هؤلاء كثيرون، بقدر ما يوجد من صعدوا سلم الإنسانية ليصبحوا أعماما، حتى الشخص العادي حين يلتقي بالعم وغير العم، يحس بالفرق ظاهرا.
لقد التقيت بهاء طاهر شخصيا، بعد أن قرأت بعض رواياته، في أمسية ثقافية قدمها في الدوحة في تسعينيات القرن الماضي، كنت في البدايات، قارئا أكثر مني كاتبا، وقد كتبت روايتين صغيرتين، كانتا محاولة للانعتاق من الشعر، ومواجهة السرد، لكن لم ينجح الأمر جيدا، فقد كان الشعر مسيطرا، وكان البناء السردي عبارة عن صور شعرية متلاحقة.. بدا لي بهاء الذي كان يتحدث عن موضوع لا أذكره الآن، وربما كان الكتابة في الاغتراب أو الهجرة، وكان مغتربا في سويسرا، كما هو معروف، وكان قد كتب «الحب في المنفى» إحدى الروايات العلامات في الكتابة العربية، حتى الآن.
بدا لي بهاء في ذلك اليوم وأنا الشاب المبتدئ الباحث عن موضع قدم في ساحة غاصة بالمبدعين، هرما وسيما، ولامعا، ويتحدث واقفا على منصة، دون أن يلقي نظرة على ورقة أمامه، كان يرتدي بدلة سوداء ورباط عنق أزرق، وتبدو الثقة ظاهرة في وجهه، ومحاضرته.
أظن أنني أحسست بصفة العم التي تليق به، تتراقص في ذهني، أحسست به إنسانا عظيما مثلما هو كاتب عظيم، وأنني يمكن أن أقدم له نفسي بعد المحاضرة. وقد كان حين قدمت نفسي، ثم قدمت ما كتبت بعد ذلك، وعلى مدى سنوات، لم تنقطع صلتي بالعم ولا صلته بي.
الآن نفتقد بهاء، نفتقد أبوته الرصينة للإبداع على مدى الأجيال التي تلته، وإنه كان عما جديرا بهذه الصفة.
كاتب سوداني