المقصود ببوعلام هنا هو الروائي بوعلام صنصال، الذي تم إيداعه الحبس المؤقت الأسبوع الماضي، بجناية المس بأمن الدولة، بعد التصريحات الخطيرة التي تفوه بها حول الحدود الجزائرية، وحرمة التراب الوطني في أكثر من موقع إعلامي فرنسي، قريب من أقصى اليمين، الذي يملك ثأرا سياسيا مع الجزائر وجد ضالته عند بعض الجزائريين المشهورين، الذين تطوعوا لاتخاذ مواقف معادية للبلد، وليس للنظام السياسي، التي يمكن إيجاد التبريرات لها وتفهمها كجزء من حرية التعبير الممنوحة لبعض النخب الفكرية والأدبية، التي تستفيد من وضعية ما فوق – المواطن التي تريد تكريسها. عكس ما يحصل مع المواطن البسيط الذي يسجن لأتفه الأسباب.
في بلد هو الوحيد في العالم الذي يطلق على أبنائه اسم «بوعلام»، أي صاحب الراية، بعد أن فقدت الجزائر رايتها الوطنية نتيجة الاستعمار الاستيطاني الذي تعرضت له، مقارنة حتى مع البلدان المغاربية، التي عرفت الحماية وليس هذا النوع من الاستعمار، الذي قضى على كل رموز السيادة الوطنية، بما فيها الراية الوطنية. ليسمي الجزائريون انتقاما من الاستعمار أبنائهم ببوعلام، بل سموا مدننا كاملة بهذا الاسم، كما هو سائد في المنطقة الجنوبية الغربية من البلاد، التي اشتهر فيه هذا الاسم، كما هو حال بوعلام بسايح وبوعلام باقي، إذا اكتفينا بهذه الأسماء المشهورة من أبناء الجنوب الغربي.
أقصى اليمين الذي عاد بقوة في السياسة والرواية والفن، ما زال مُصرا على أخذ ثأره من الجزائريين الذين تجرؤوا ذات يوم وطردوه من جنة اسمها الجزائر
«بوعلام» الذي كان من الصعب عليّ إيجاد تفسيرات عقلانية ومقنعة لما تفوه به فيما يخص تاريخ وجغرافية البلد، يجب أن نتجاوز بصددها فكرة بحثه عن الشهرة، التي يكون الرجل يبحث عنها بأي وسيلة، عبر الشائعة التي روج لها بمنع كتبه في الجزائر، لتشويه صورة البلد أكثر عند أصدقائه على الضفة الشمالية للمتوسط، علما أنني اشتريت شخصيا نسخا منها عند صدورها من مكتبات في العاصمة، التي ما زالت، ربما، تباع فيها بشكل عادي جدا. أعجبت في حينها بلغته الفرنسية و»جرأته «وهو يحكي كروائي – وليس مؤرخا – عن دور الألمان من النازيين القدماء في تاريخ الجزائر، وعن رواية أخرى «شارع دارفان» المعروف كحي في أعالي بلكور، كانت هي الأخرى جد جريئة وهي تتكلم عن بيوت الدعارة التي اشتهرت بها الجزائر كممارسة خلال المرحلة الاستعمارية، كانت مخصصة في جزء كبير منها لتلبية نزوات الجيش الفرنسي، بعد تضخم أعداده على التراب الوطني، ربطها بالمنطقة التي ولد وعاش فيها وهو صغير، أكًد فيها بوعلام الروائي مرة أخرى، أنه كان قريبا جدا من الواقع وهو يكتب رواياته في سن متأخرة. كما حصل معه وهو يستفيد من الجنسية الفرنسية وهو على أبواب عقده الثامن وليس قبل. رجل تميز مساره التعليمي والمهني بنجاح أكيد، رغم الأصول الفقيرة لعائلته، هو الذي درس في مدرسة عليا مرموقة للمهندسين، حصل بعد تخرجه منها على مناصب عليا في القطاع الصناعي، الذي امتهن العمل فيه طول مساره المهني، أوصله في بداية التسعينيات إلى العمل مستشارا مع أكثر من رئيس حكومة، حسب وسائل إعلام جزائرية.
الرجل الذي لا أعرفه شخصيا، رغم أنني صادفته مرة أو اثنتين من بعيد في مسيرات الحراك، بشعره الطويل الرصاصي وجسمه النحيف الذي لا يمكن إلا أن تلاحظه وهو يمشي وحيدا، وكأنه خائف من الناس المحيطين به، رغم الحميمية الكبيرة التي ميزت العلاقة بين أبناء هذا الحراك الجزائري المبتسم، الذي تعارف داخله الجزائريون من كل الأعمار والجهات والمواقع الاجتماعية، تناقشوا طويلا، اختلوا واتفقوا لمدة قاربت السنتين، حول عديد القضايا التي تهم بلدهم الذي عبروا عن حب كبير له، لأكتشف كما اكتشف الكثير من الجزائريين غيري أن بوعلام ابن عائلة فقيرة من منطقة الريف المغربية، عاش، اندمج ونجح مثل الكثير من ذوي الأصول المغربية في الغرب الجزائري، جاؤوا منذ عدة أجيال للعمل كيد عاملة زراعية في الغالب، في هذه الجهة من التراب الوطني المعروفة بسهولها الزراعية الغنية، التي كان يملكها المعمرون الفرنسيون. يدعي بوعلام اليوم أنها جزء من المغرب، تم اقتطاعها من قبل الاستعمار الفرنسي لصالح الجزائر. لنكون مرة أخرى أمام قرب واضح من الواقع، كخلفية لسرديات بوعلام السياسية والأدبية، وما نتوقع منه في هذه الحالة من رواية عن السجون الجزائرية بعد خروجه منها، سيحصل بها على جوائز فرنسية ودولية ولو بشكل متأخر، كما كان الأمر مع الكتابة الروائية والحصول على الجنسية الفرنسية. تماما كما فعل المنشقون الروس خلال التجربة السوفييتية الذين استغلهم الغرب للتحرش بالاتحاد السوفييتي وتهديمه عندما كانت التجربة تعيش أيامها الأخيرة.
واقعية بوعلام التي وصلت عند صديقه كمال داود ـ إذا صدقنا تصريحات الضحية المعنية بالقضية – إلى حدودها القصوى وهو يستعمل معطيات ملف طبي لمريضة كانت تتداوي عند زوجته النفسانية، تجسيدا لهذه «الواقعية الخشنة «التي امتاز بها بعض كتاب الرواية الجزائريين المفرنسين الذين تريدهم الحياة الأدبية الفرنسية من دون خيال، بل تتكفل هي بمدهم به.. تصنعه لهم.. المهم أن يكتبوا بالفرنسية التي أجادوها ليكتفوا بالتحرش بالجزائر والجزائريين تاريخا ومجتمعا، وثقافة، خدمة لأطروحات أقصى اليمين الذي عاد بقوة في السياسة والرواية والفن، ما زال مُصرا على أخذ ثأره من الجزائريين الذين تجرؤوا ذات يوم وطردوه من جنة اسمها الجزائر.
بوعلام الذي ما زلت مقتنعا بأن سجنه هو توريطة للبلد أكثر منها شيئا آخر وفشلا آخر يؤكد الصعوبات التي يواجهها البلد كنظام سياسي ونخب سياسية وثقافية، في خلق حياة ثقافية مفتوحة على النقاش والاختلاف بين مكوناتها، لا يكون مفروضا علينا فيها أن تنتظر الرواية من فرنسا والجريدة من فرنسا والحصة التلفزيونية السجالية من فرنسا، وهي تتكلم عنا وعن ثقافتنا وتاريخنا، لأننا قررنا أن نغلق جرائدنا وتلفزيوناتنا أمام كتابنا وروائيينا الذين يتعرضون لكل أشكال الابتزاز المالي والسياسي في فرنسا وهي تتجه يمينا. وضع أكده الغلق الذي مس للمرة الثانية هذه السنة صالون الكتاب، الذي منعت فيه دار نشر جزائرية من عرض إنتاجها الجديد ـ يباع في المكتبات بشكل عادي ـ مثلما يمس الإنتاج التلفزيوني والسينمائي والنشاط الفكري داخل الجامعة، أوصلت البلد إلى مستوى تصحر ثقافي لم تعشه في أحلك أيام ما يشبه الحرب الأهلية التي اكتوينا بنارها بعد فترة الانفتاح القصير التي عشناها بُعيد الإعلان عن التعددية التي عرفت فسحة في نشر الكتاب والمذكرات لم تعشها الجزائر، سيتم التضييق عليها وتصفيتها إذا استمرت الاتجاهات السائدة هذه الأيام. ستفرز لنا أكثر من كمال وبوعلام. لن نحتار كثيرا في شكل التعامل معهم بعد أن قررت الأغلبية – بمن فيهم مثقفون وصحافيون كُثر -ان سجنهم والتضييق عليهم هو الحل الأمثل حتى لا نستمع إلى أصواتهم المزعجة.
كاتب جزائري